منى فياض

الأثنين ٦ آب ٢٠١٨ - 08:15

المصدر: الحرة

المواطنة وخدمة البلدية بين مونتريال وبيروت

أنا مواطنة لبنانية أزور كندا مستخدمة جواز السفر اللبناني. تعرضت الشقة التي أسكنها لعطل جعلنا نحتاج إلى إقفال المياه وقطعها كليا لإجراء بعض التصليحات. اكتشفنا بالمناسبة وجود مشكلة بالتمديدات حيث لم يتم وضع قفل لقطع المياه سوى عن المياه الباردة. فهذا يحصل حتى في كندا! بحثنا عن القفل الرئيسي للبناية مع السمكري ولجنة البناية ولم نجده أيضا.

لم يبق أمامنا سوى الاتصال بالبلدية، وهكذا كان. رفض الموظف البلدي التدخل في البداية، لأنها مشكلة خاصة، والبلدية تتدخل لقطع المياه من القفل الرئيسي الخارجي عندما تكون المشكلة عامة؛ ولأن القفل قد ينكسر أثناء فتحه وسوف تبقى المياه مقطوعة عن البنايات المحيطة لأكثر من يوم حتى يتم التصليح، وهذا غير مقبول بالطبع.

بعد شرح ومباحثات اقتنع الموظف البلدي بضرورة التدخل، لأنه لا يستطيع أن يتركنا في وضعنا الطارئ الصعب. أحضر شركة مختصة لكي تستعمل عملية الضغط الهوائي والحفر للكشف عن القفل وإغلاقه دون أن يتعرض للكسر. المهم استغرق الأمر 3 أيام في عمليات اتصالات ومتابعة وتنسيق بين 3 أجهزة وتم حل المشكلة.

تعلمت من هذه التجربة أن شركات البناء ترتكب أخطاء جسيمة، خصوصا عندما تقترب الإجازة ويكون على عمال الشركة أو المتعهد التسليم في موعد محدد فتنجز الأعمال المتبقية بتسرع وعدم إتقان أو مسؤولية.

لكن عاينت أيضا كيف تجهد السلطات البلدية في تأمين الخدمة للمواطن أو للموجود على الأراضي الكندية بأية صفة كانت كي تتأمن حقوقه. التفاني والاهتمام والتفهم والدعم الذي قدمه موظفو وعمال البلدية جعلني عاجزة عن شكرهم؛ هذا بينما السمكري (المواطن الكندي) وجد أن هذا طبيعي وحتى أنه اشتكى من تأخرهم وتعطيله بالطبع، معلقا أنه فهم الآن أين تذهب أموال المواطنين. فهم يتقاضون أجورا من أجل ما قاموا به.

لكن اللبنانيين أمثالي، لا بد أن يشعروا بالامتنان للاهتمام الذي حصلوا عليه مقارنة بالخدمة “غير المؤمنة” في لبنان مع أن الموظف البلدي يتقاضى أجوره وزيادة.

لقد قارنت، في سريرتي، بين ما حصل معي في مونتريال وبين ما يحصل في بيروت في منطقة الصنائع، المفروض أنها من المناطق الحسنة على صعيد الخدمات. ففي الشارع الذي أقطنه تفوح من وقت لآخر روائح المجاري، المشكلة أن رائحتها لا تعم الشارع فقط بل تدخل إلى شققنا السكنية لتمتلئ بتلك الرائحة النتنة التي لا تحتمل. لم تكن هذه المشكلة كبيرة منذ عدة سنوات بسبب حصولها عندما تمطر بغزارة في أوقات متباعدة، لكن مؤخرا صارت تحصل بوتيرة عالية ومن دون مطر، بحيث تضطر لفتح جميع الشبابيك سواء أكان الطقس حارقا في الصيف أو قارسا في الشتاء، وتظل آثارها تزكمك لفترة من الزمن.

مؤخرا صارت تلك الرائحة تلازمنا معظم الأوقات. استفسرت من لجنة البناية عن الأمر، قيل لي إنهم أخبروا البلدية عدة مرات ولم تحرك ساكنا. ونظر إليّ نظرة ذات معنى وكأنه ينتظر مني مبادرة: يبدو أنها لن تحل إلا بالاتصال بأحد هناك على مستوى عال!

وبانتظار ذلك، لا أحد يهتم بصحة أو براحة المواطنين المعنيين في بيروت العزيزة.

أثناء كتابتي هذه المقالة طالعت بالصدفة في صحيفة النهار مقالة للمياء غنطوس شارلبوا بعنوان: لبنانيون… ونقطة على السطر!

تقول فيها إنها بعد أن نشرت “كلمات صادقة ووردية” على صفحتها في موقع فيسبوك، حصلت على “6800 إعجاب، 770 تعليقا، 4100 مشاركة” عبر “فيسبوك”، وآلاف المشاركات من خلال خدمة “واتساب” وموقعي “إنستاغرام” و”لينكد إن”. أضافت “لقد وصلت كلماتي ورسائل التعليق عليها إلى كولومبيا والبرازيل وأستراليا. علق عليها لبنانيون في بلدان الاغتراب وفي لبنان، وأبدوا إعجابهم بها أو امتعاضهم منها”.

وتشرح كيف أنها بنقرة نفحت الأمل بنفوس الآلاف وأضافت: “لا تستطيع الكلمات أن تحرك الأمم، إنما بإمكانها أن تخفف من أجواء الكآبة، وتلامس أوتارا حساسة، وقد تتحول عامل تغيير”.

وهذا صحيح ولكن الصحيح أيضا أن الكلمات والأفكار هي التي تغير العالم وتحرك الأمم.

كما عبرت عن معاناتها “أضعنا سنوات قيمة من عمرنا كان يجب أن نمضيها إلى جانب أهلنا، وناضلنا وحيدين في بيئة غريبة.. عشنا المرض والموت والفشل والنجاح والفرح والحزن وحيدين، وذرفنا دموعا ابتلعتها مياه المحيط الذي يفصل بيننا.. وعلى الرغم من رغبتنا الحارقة في العودة إلى لبنان، إلا أن مصير الأولاد الذين جئنا بهم إلى هذا العالم في بلاد الغربة، يدفعنا إلى مواصلة التضحية. مات أهلنا بعيدا عنا، ويكبر إخوتنا وأخواتنا في غيابنا، ووطننا الأم يعاني معنا ومن دوننا”. ثم تسرد أيضا عن الدفء والحب والسخاء والمساعدة التي حصلت عليها أينما توجهت.

إن كلامها الصادق يعبر تماما عن مأزق اللبناني المهاجر والتناقض الوجداني الذي يعيشه؛ إذ رغم تأقلمه سيظل يشعر بالحنين وبحزن مقيم وبنقص ما لن يمتلئ وسيرافقه إلى حين مغادرته هذا العالم. وهذا ما يفسر عودة بعض المسنين إلى بلدهم في أواخر العمر ومنهم من يتوفى ويدفن في بلدته الأصلية.

لكن أن تعد بقاءها “تضحية” من أجل مصلحة الأولاد في موطنها الجديد كندا ففي هذا مبالغة وظلم لوضع اللبناني ـ أو للدقة معظم اللبنانيين ـ المقيم في البؤس، ولو زينه بعضهم، من القادرين، بالتهييص في المطاعم والحفلات على مدار العام وليس لأسبوعي إجازة، هربا ومكابرة من الواقع المرير.

لقد بلغ تدهور الوضع في لبنان عتبة خطيرة تهدد باللاعودة إلى ما قبلها، سواء على الصعيد البيئي أو الاجتماعي أو الاقتصادي ناهيك عن انحدار الوضع السياسي وعلنية الفساد بشكل غير معقول. إن مصير البلد مهدد ككل. عمليات القمع المبرمج تتزايد عبر قمع كل من يكتب منتقدا الفساد أو متوجها برسالة إلى رئيس الجمهورية وتهديدهم وإسكاتهم دون ضجة أو إثارة انتباه، إلا إذا كان المعني شخصية عامة معروفة؛ إلى أن وصل الأمر إلى أحد أعمدة الجامعة اللبنانية المتمثل في الاستاذ الجامعي والمناضل النقابي عصام خليفة حين جرى الادعاء عليه وجرجرته “للتحقيق في قسم المباحث الجنائية المركزية في مبنى وزارة العدل… بعد استدعائه بموضوع قدح وذم برئيس الجامعة اللبنانية فؤاد أيوب”.

ناهيك عن العنف والجرائم اليومية المتفشية عموما بشكل غير مسبوق، وبحق النساء خصوصا، وارتفاع معدلات الانتحار بشكل خطير ومقلق..

على فكرة نسيت أن أخبركم أن المياه النقية الصالحة للشرب توزع وتصل إلى البيوت مجانا في مونتريال، بينما في بيروت ندفع ثمن مياه ملوثة ونشتري نوعين إضافيين للشرب والخدمة.

ربما لم يتسن الوقت ولا الظروف للسيدة لمياء للاطلاع على هذا الجانب الإضافي المظلم؛ لكن الابتعاد عن هذا الوضع في هذه الظروف لا يعد تضحية، بل حسن تدبير وحظ. وآمل أن تتمكن من العودة إلى البلد الذي في حلمها ذات يوم.

ولنترك اللبناني المقيم يرزح تحت ثقل همومه وحمله لحزنه ويأسه وغضبه.

وليمش على غير هدى إلى مستقبل مظلم مجهول، حتى يكتمل انحناؤه وتنغلق عليه الدائرة.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها