منى فياض

الأثنين ٩ تموز ٢٠١٨ - 08:39

المصدر: الحرة

الهروب إلى الأمام في مسألة المهاجرين/ اللاجئين

اللجوء أو النزوح أو الهجرة، أو أي تسمية شئنا، يعني الآن التشرد في العراء والارتماء في أحضان البحر هربا من جحيم بلدان العالم الثالث. تتناسل وتتضخم هذه الظاهرة مثل وباء يمكن تسميته “الرغبة بالهرب” أو “الطفشان”. يجمع الباحثون أن هذه الظاهرة ستكون أحد أهم مشاكل الألفية الثالثة وأحد أهم المظاهر التي أفرزتها العولمة بوجهيها: توحش الرأسمال عابر القارات والعنف والقتل المتفلتين من كل عقال.

عندما يرى الشاب، بأم عينيه وفي كل حين، كيف يعيش “المواطن” محترما في بلدان العالم الأول فيما يعلق بين فكي البؤس والقتل، سيركب بالطبع أمواج البحر حتى ولو كان هناك موت آخر محتمل بالانتظار. كل هذا على أمل الوصول إلى الشاطئ المقابل بعيدا عما يفترض أنه الوطن. وكلما غفلنا عن أمر هؤلاء الهاربين، فستعيد تذكيرنا بهم حادثة كـ”الأكواريوس” التي حملت 630 مهاجرا ضاقت بهم أوروبا على امتدادها بسبب قوانينها غير المهيأة لهذه الظاهرة المستجدة ولعجز دول الاتحاد الأوروبي عن التنسيق فيما بينها. وهذا حديث آخر.

يعتبر الأوروبيون هذه الظاهرة، التي تطال عشرات الآلاف ممن يرتمون في البحر أو يهيمون على وجوههم في البراري والجبال كما حصل في الشتاء الماضي في جبال لبنان المحاذية لسورية حيث تجمد وقضى عشرات الأشخاص في الصقيع، هروبا من جحيم الحرب الأهلية وذلك في نوع من التسامح مع الذات! ففي سورية “حرب أهلية” على ما يبدو! فذلك أجدر بطمأنة الضمائر وإبعاد المسؤولية عن الدول الكبرى لاستمرار حروب احتلال سورية أو تجارة الموت العالمية واسمها التقني “تجارة السلاح”.

غريب أمر هذه الدول، ألم يكن أرخص وأقل كلفة وأكثر احتشاما وحفظا للحياة الإنسانية وكرامتها أن يبذل مثل هذا الجهد لإيقاف الحرب بدل الأزمة المتفاقمة على جميع الأصعدة!

الأوروبيون مصابون بالذعر من اجتياح “المهاجرين” لساحتهم وملعبهم (الملفت عدم استخدامهم صفة اللاجئين هناك وتخصيصنا بها)، فتتهدد حكومات وتستعيد تيارات اليمين العنصرية مجدها تحت تسمية مخففة كـ”الشعبوية”، تهربا من الذاكرة النازية. تعقد المؤتمرات وتصدر القرارات وتزدحم الزيارات لاحتواء مفاعيل داء العصر، إما بإبقائهم في الأمكنة البعيدة عنهم، أو احتجازهم في معسكرات انتظار عند نجاحهم بالوصول إلى الجنة الأوروبية!

لكن أوروبا التي تضيق بمليون ونصف نازح/ مهاجر، ترتئي أن على بلد مثل لبنان أن يستوعب عددا يزيد عن ذلك! في إشارة ضمنية إلى أن “الثقافة المتجانسة” تساعد على الاندماج. لكن ربما يصح هذا الافتراض في الحالة التركية، فمليونان أو ثلاثة ملايين نازح يمكن استيعابهم في إطار هذا المفهوم في بلد تعداده يقارب الـ 80 مليون نسمة. لكن مهما فعلنا لن يكون ممكنا للبنان أو للأردن النجاة من مفاعيل هذه النسب التي تقارب نصف عدد السكان (أكثر للبنان وأقل للأردن).

وأمام حجم المشكلة، لم يجد وزير خارجيتنا (جبران باسيل) سوى مفوضية اللاجئين كممثل للحكومات الغربية ليهاجمها، وهي التي تميل حقا إلى تخفيف المشكلة، في وقت أن الحكومة اللبنانية مقصرة بحق اللبنانيين قبل السوريين. وتصبح المشكلة في التسمية؛ ويثور الجدل حول مفهومي لاجئ ونازح، فتعتبر الأمم المتحدة أنهم “لاجئون” بما يترتب عن ذلك من حقوق، فيما تصر الحكومة اللبنانية على تسميتهم بـ”نازحين”.

اللافت هو أن الأدبيات الغربية تستعمل كلمة مهاجر (immigré) لوصف الأشخاص الهاربين إليها، وهم لن يصبحوا لاجئين (refugié) إلا بعد أن تقبل بهم الدولة المضيفة بهذه الصفة، وإلا سيظلون مهاجرين على متن السفن أو الزوارق أو محاصرين في مخيمات، ومصدر صراع دائم بين الدول وتهديد للمجتمعات.

ينتقل الأشخاص بين لبنان، المعروفة أوضاعه وانقساماته ومشاكله، وسورية من دون جوازات سفر أو فيزا سوى إبراز بطاقة الهوية؛ وفي بداية الأزمة عبر إليه مئات آلاف النازحين الذين بدأوا بالتوافد بعد أن تسبب حزب الله بتهجيرهم إثر احتلاله لمدينة القصير. ظلت المشكلة غائبة عن سمع المسؤولين، حتى ما قبل عامين، ربما للتقليل من حجم مسؤولية الحزب. ولم يقم لبنان الرسمي بأي تدبير لمواجهة المشكلة أو لتخصيص أماكن أو مخيمات للنازحين. وفجأة بدأ الحديث عن مشكلة الأعداد الفائضة منهم المتواجدين على الأرض اللبنانية من دون أي رقابة إلى أن بلغ تعدادهم ما يعادل نصف عدد السكان، في سابقة عالمية أولى من نوعها. ولم يحرك المسؤولون اللبنانيون ساكنا إلا عندما احتاجوا إلى تبادل العلاقات مع نظام الأسد.

لكن بروفة هذه العودة التي جرت في بلدة عرسال (عند الحدود اللبنانية ـ السورية) قبل أيام، بينت أن المسؤول عن التهجير ـ عدا القتل طبعا ـ ومن يمنع عودتهم هو النظام نفسه الذي يتهرب المسؤولين اللبنانيين من إدانته من أجل التصويب على الأمم المتحدة ومفوضية شؤون اللاجئين التابعة لها. لكن سرعان ما باءت الدعاية عن عودة اللاجئين الوشيكة بالفشل لأن من عاد منهم لم يكن سوى بضعة مئات ومع ذلك ينتقي نظام الأسد من بينهم من يحق له العودة ومن لا يحق، بعد أن مهد لاعتبارهم أجانب في بلدهم مع القانون الشهير رقم 10.

وبحسب الصحف: “انخفض عدد النازحين العائدين إلى القلمون الغربي في سورية من مخيمات بلدة عرسال اللبنانية من 400 نازح أعلن أن القافلة الأولى ستشملهم، إلى أقل من 300 نازح”. وقال رئيس بلدية عرسال باسل الحجيري لجريدة “الحياة”: “إن السبب أن الموافقة السورية لم تشمل أسماء عائلات أشخاص، ففضل هؤلاء انتظار الموافقة السورية على بقية أفراد العائلة للعودة إلى الداخل السوري”.

وأمام كل هذا التكاذب، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي، كيف يفترض أن تعالج مشاكل الهجرة المتزايدة والتي تقلق العالم الأول وتقض مضاجعه؟ أليس بإيقاف الحرب؟ لكن ذلك سيعطل صفقات الأسلحة وسيكدر صفو الأنظمة الاستبدادية!

عدم إيقاف الحرب، سيبقي الهجرة مشكلة لا تهدد الأمن الوطني لدول الجوار الأقرب فحسب، بل الغرب والعالم بمجمله وسيكون لها آثارا وخيمة على مكتسبات الحقوق المواطنية وقيم الثورة الفرنسية. وفي هذا السياق كتب مارسيل غوشيه: “ضغط الهجرة سيثير اضطراب الأفق الأوروبي، والدول الأخرى المعنية، لعقود قادمة”. فالتناقض، الذي يكبر، بين المهاجرين والشعوب الأوروبية يبرر دائما بالاختلاف.

ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، قادArthur de Gobineauهذا المفهوم الذي اخترع مفهوم “العرقية”، فالشك بإمكانية العيش المشترك مع الغرباء، هؤلاء الذين يترافق تنوعهم العرقي مع تنافر الثقافات antagonism. ويعتبر كلود ليفي ستراوس، أن الاختلاف يعبر عن نفسه بالضغط الذي يدعو إلى الافتراق والمغادرة. هذا الموقف في جعل الاختلاف جوهرانيا، يمكنه أن يبلغ حد وضع المكتسبات الحضارية، من مفاهيم الحقوق التي اخترعتها روما وصولا إلى الاختراع الفرنسي للمفهوم المثلث الوجودي والأيديولوجي: “حرية، مساواة وأخوة”، موضع تساؤل.

ويعتبر الجميع أن لبنان العيش المشترك، والذي يعرف ببلد لجوء للأقليات التي عمرته، معتاد على الهجرة واللجوء على مر السنين. لكن هذه أفكار مسبقة ومغلوطة تحتاج إلى إعادة نظر. أولا لا يمكن مقارنة الهجرات التاريخية السابقة بما يجري حاليا؛ فلا الدولة الوطنية كانت معروفة، ولا الحدود كانت موجودة ولا القوانين التي نعرفها الآن. ثانيا، لماذا الاستنتاج السهل أن تلك الهجرات كانت تمر دون صراعات وعنف؟ ولو أن الأمر كذلك لما جهد مؤسسو لبنان الأوائل في التشديد على العيش المشترك والتسامح. لا نؤكد على ما هو بديهي وموجود. إن الحرص على التأكيد على هذه المسائل تضمر وتخفي معاناة طويلة من غيابها.

ناهيك عن النزاعات التي نشأت بعد نشوء الدولة الوطنية بين مواطني لبنان وسورية بسبب اختلاف الأنظمة والاقتصادات وبسبب الهيمنة وغيرها من التفاعلات الحديثة المعروفة. لكل ذلك تداعيات سلبية مشابهة لما يجري في الغرب لجهة الاندماج، ما يؤثر على العلاقة بين الضيف والمضيف. هذا دون أن ننسى أننا لو افترضنا أن الهجرات القديمة كانت بهذه الكثافة الضاغطة، فلم تكن تحصل في منطقة جغرافية ضيقة ومحدودة، بسبب غياب الحدود تحديدا وقدرة الناس على التجول إلى أن يجدوا المنطقة المناسبة لهم.

من هنا إن المحفزات والمساعدات التي يغري بها الأوروبيون الدول المنكوبة كلبنان والأردن ليست إلا مورفين لمريض السرطان.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها