منى فياض

الأثنين ١٦ تموز ٢٠١٨ - 08:41

المصدر: الحرة

خلفيات ظاهرة الانتحار في لبنان نفسية أم اجتماعية؟

في العادة لم يكن الانتحار من المواضيع التي تشغل بال اللبنانيين ولا يشكل ظاهرة ملفتة، لكنه بدأ يتحول إلى أحد المواضيع الساخنة في الأعوام القليلة الماضية، وبلغ الاهتمام به ذروته هذا العام، بحيث بات ظاهرة شغلت الرأي العام وصارت من المواضيع التي تشغل الإعلام اللبناني والعربي.

تعددت التقارير والمقالات والتحقيقات، ما جعل التلفزيون العربي يشير في مطلع حزيران/يونيو الفائت إلى أن لبنان سجل زيادة تبلغ 30 في المئة في معدلات الانتحار وأن شهر أيار/مايو وحده سجل 23 حالة. مع ذلك هناك من يجد أن الانتحار لا يزال ضمن المعدلات العالمية العادية ولا داعي للقلق.

ازدادت معدلات الانتحار في السنوات الماضية زيادة ذات معنى، فتضاعفت عدة مرات منذ العام 2008 وحتى الآن. تشير “الدولية للمعلومات” إلى أن نسب الانتحار المسجلة لدى قوى الأمن الداخلي ارتفعت من معدل 60 حالة في الأعوام 2004، 2005، 2006 و2007، إلى 103 حالة في العام 2008، أي كادت تبلغ الضعف. وقفز الرقم مرة أخرى عام 2013 إلى 143 بحيث كاد يتضاعف ثلاث مرات عما كان عليه سابقا. ثم عاد إلى الارتفاع مجددا هذا العام فبلغت حالات الانتحار 100 حالة في النصف الأول فقط للعام الحالي، وهو ما أثار البلبلة.

وهذا مؤشر مهم على تردي أحوال الصحة الذهنية عموما في لبنان.

وإذا كان من الطبيعي عقد المقارنات مع معدلات الانتحار العالمية، لما لتلك المؤشرات من دلالة، وتسمح المقارنة بتكوين فكرة عن موقعنا في سلم الصحة الذهنية العالمي، إلا أن ذلك يحيلنا إلى دوركهايم حين قارن تطور نسبة الانتحار في مختلف البلدان، ولاحظ أنها تتعلق بالمجموعات الاجتماعية؛ فاستنتج أن الانتحار هو واقعة اجتماعية مستقلة عن القرارات الفردية. يبقى أن علينا اكتشاف العوامل الاجتماعية المسؤولة.

كما ستظل المقارنة قاصرة لأن الأرقام لا تدل بالضرورة على العدد الفعلي للمنتحرين أو لمحاولات الانتحار، لأنها توثق من سجلت وفاته في خانة الانتحار، وهذا التوثيق سيختلف من بلد إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، وسيكون أكثر دقة في الغرب عنه في بلادنا، بسبب الموقف من الانتحار ووجود الموانع الاجتماعية والدينية للإفصاح عنه ولاختلاف مستوى العناية الصحية ودقة الأرقام الرسمية.

لمحاولة فهم وتتبع ظاهرة الانتحار لجهة خطورتها، كجميع الظواهر الطبية أو الاجتماعية الأخرى لا تكفي مقارنتها بالأرقام والمستويات العالمية، بل علينا العودة إلى تاريخ الحالة نفسها ـ سواء كانت بلدا أو مجتمعا أو فردا ـ وتتبع مسارها الخاص وتطوره لتقدير مدى خطورتها من عدمها.

من هنا نجد أن حالة السواء ـ أي ما يعد طبيعيا ومقبولا ـ تقاس بالنظر إلى كل حالة بذاتها. وسأورد مثلا مأخوذا من الميدان الفيزيولوجي للتوضيح: من المعروف أن معدل النبض الطبيعي عند الشخص البالغ في الأحوال الطبيعية يتراوح ما بين 60 إلى 70 نبضة في الدقيقة الواحدة، وقد تختلف سرعة نبض القلب من شخص لآخر فترتفع أو تنخفض. لكن نلاحظ أن النبض عند الشخص الرياضي المحترف (Athlete)يبلغ 40 نبضة في الدقيقة وقت الراحة، بينما يرتفع إلى أكثر من 120 عند التمارين بالطبع، دون ذلك لن يحتمل جسمه ارتفاع ضغطه بشكل يفوق المعدلات السوية حين بذله المجهود القوي أثناء التمرينات. لذا يعمد إلى تخفيض ضربات نبضه عندما يكون في حالة راحة.

لكن لمن لا يعرف طبيعة عمل هذا الشخص سيعده في وضع حرج إذا اعتمد على قياس نبضه فقط؛ بينما إذا انخفض ضغط الشخص العادي إلى 40 فهذا يعني أنه بحاجة إلى عناية سريعة.

وهذا ينطبق على حالة السواء الاجتماعية بما فيها معدل الانتحار في لبنان؛ إذ لا يكفي أن نطمئن أنفسنا أن الوضع لا يزال عاديا مقارنة بهذا البلد أو ذاك أو هذا المتوسط أو ذاك، بل مقارنة بما كان الوضع عليه وما أصبحه لاحقا. هنا يصبح ازدياد معدلات الانتحار مؤخرا ملفتا ومثيرا للقلق.

وأول ما يسجل في هذه الظاهرة أن القفزة الأولى حصلت في العام 2008 وجميعنا نعلم ما حصل حينها عندما وجه حزب الله سلاحه نحو الداخل اللبناني في 7 أيار/مايو “المجيد”. فهل من الممكن عدم الربط بين ارتفاع أعداد المنتحرين وبين “التروما” الأمنية والسياسية والاجتماعية التي شكلها هذا الحدث؟

أما القفزة الثانية فحصلت في العام 2014، أي مباشرة في العالم التالي لعجز رئيس الحكومة تمام سلام عن تشكيل حكومته طوال عام 2013. فشكل عدم الاستقرار السياسي عامل ضغط وقلق.

لكن التردي الهائل حصل عام 2017 ومطلع العام الجاري فوصل البلد إلى حافة الانهيار على جميع الصعد؛ من فشل الدولة والمؤسسات إلى الإفلاس وإغلاق المصانع إضافة إلى الوضع السياسي والأمني المضطرب وغير المستقر والوضع الاقتصادي الخانق والبطالة والفقر، مما يقلق المواطن ويزيد ارتفاع حالات الاكتئاب المتفشي وسمة اليأس التي تتردد على كل لسان.

فهل يمكن الاكتفاء بما يذهب إليه كثير من الاختصاصيين والأطباء النفسيين، من أن الانتحار مشكلة شخصية تنجم عن اضطراب عقلي بمعزل عن الشروط الاجتماعية، خصوصا في حالتنا هذه؟ لا أحد يشكك بالطبع بأهمية العوامل الشخصية لحالات الانتحار الفردية، وفهم كل حالة على حدة من ميدان الاختصاصات النفسية، لكن لا يمكن إلا التأكيد مع دوركهايم على أن “المعدل الاجتماعي لحالات الانتحار لا يجد تفسيره إلا سيسيولوجيا”. فدوركهايم الذي اهتم بتوضيح التباين في معدلات الانتحار، أي بمعرفة لماذا نجد أن مجموعة معينة لها معدل انتحار أعلى من الأخرى، افترض أن العوامل البيولوجية والنفس اجتماعية تبقى ثابتة من مجموعة لأخرى ومن وقت لآخر. لذا يجد أن تفسير الاختلافات في معدلات الانتحار تعود إلى الاختلاف في العوامل الاجتماعية وتحديدا التيارات الاجتماعية الموجودة في المجتمع.

لكل مجموعة اجتماعية استعداد جماعي خاص بها للفعل، هو مصدر الاستعداد الفردي وليس نتيجته؛ ويتكون من تيارات تتخلل المجتمع وتتوزع بين الأنانية والإيثار واللامعيارية إلى الفوضى وغيرها. اعتمد دوركهايم هذه التيارات لتصنيف أنواع الانتحار الأربعة التي وضعها بعدما فحص وقارن العديد من المعطيات والاحصاءات؛ فتوصل إلى أن الانتحار الأناني يأتي كنتيجة طبيعية لانحلال الروابط الاجتماعية، سواء العائلية أو السياسية أو الدينية. فكلما تدنت درجة الاندماج في رابط ما تزداد نسبة الانتحار.

وكما نلاحظ، يمر لبنان بمرحلة انتقالية جعلت جميع هذه الروابط تتعرض للانحلال. ومن الطبيعي أن تزداد نسب الانتحار الأناني، لأنه يتولد عندما تنتهي صلاحية القيم المجتمعية السابقة فتولد معها قيم جديدة، أو أخلاق جديدة لم يتأقلم معها الفرد أو لم تتركز بعد، فينتحر لأقل صدمة من صدمات الظروف المحيطة، تتراوح من القلق إلى الحيرة أو غياب المعنى. فالانتحار الأناني هو نتيجة تراخي روابط المجتمع، وينجم عن حالة مفرطة من التفرد، عكس المجتمعات التي تتمتع بضمير جمعي قوي ما يمنع حدوث وانتشار الانتحار فيها. إن ضعف التيارات الاجتماعية الضابطة في المجتمع تمكن الأفراد بسهوله من تجاوز الضمير الجمعي ليفعلوا ما يريدون. وهذا يساعدنا على تفسير حالات الانتحار التي حصلت في لبنان والتي يحصرها البعض بالوضع النفسي للمنتحر.

إن تفكك المجتمع والتفكك الأخلاقي يؤدي إلى تيارات من الكآبة واليأس والخيبة ما يعرض الفرد ذا الوضعية الهشة للانتحار. فالإنسان مهما كان فرديا لديه دائما ما هو جماعي. وعند الإشارة إلى دور البطالة والبؤس والفقر في الانتحار فذلك لا يعني أن البؤس في حد ذاته السبب، بل هو نتيجة للاختلال وللأزمات والاضطرابات في النظام المجتمعي التي تجعل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية متدهورة وهي واضحة للعيان في لبنان.

هذا الاضطراب يؤدى إلى التعطيل المؤقت للمجموعات الاجتماعية عن أداء دورها الحاضن والضابط للأفراد، ما يطلق العنان لتيارات اللامعيارية ـ أي الإحساس بانعدام الجذور وانعدام المعايير ـ فتقود هذه التيارات إلى الزيادة في معدلات الانتحار المعياري. من السهل تصور هذا في حالات الكساد. إغلاق مصنع نتيجة للكساد الاقتصادي ربما يؤدي إلى فقدان وظيفة، ونتيجة ذلك أن الفرد ينقطع عن تأثير ضوابط الشركة والوظيفة. الانفصال عن مثل هذه البنيات ـ الأسرة، الدين، الدولة مثلا ـ يترك الفرد فريسة وعرضة للانتحار.

لقد بلغ انهيار الدولة وتفلت الغرائز والعصبيات وكسر التقاليد والأعراف وانعدام القيم وغياب الشفافية مبلغا أوصل إلى حالة من اليأس الوطني العام، الأمر الذي ينصرف أزمات نفسية واكتئابا وحالات انتحار لدى الحالات الأكثر هشاشة.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها