الثلاثاء ٢ كانون الثاني ٢٠١٨ - 10:37

المصدر: النهار

لستُ أميراً. أنا حيوان!

كانت زلّةَ لسان حين قلت لابني دال، إبن الستّ سنوات يومذاك، “إصعد يا أميري”، ونحن ندخل السيارة للقيام بنزهة. فأنا لم أنادِ ابني يوماً بـ”الأمير”، كما يحلو لمعظم الأمهات أن ينادين أبناءهن، أو بناتهن بـ”الأميرة”، لا بل تستفزني هذه التسميات لما تحمله من برمجة مسبقة لدماغ الطفل، فينمو بوهم “الإمارة” في حياة ستطحنه، شئنا أم أبينا، فتجعل منه، في الكثير من الأحيان، إنساناً درجة ثانية وثالثة ورابعة.

ثم إنني أكره حياة الأمراء حدَّ الاختناق ورُهاب الإحتجاز Claustrophobia. ولو “ابتُليتُ” بأمير، لهربتُ من قصره كحليفتي ديانا، ولفضّلتُ أن أعيش صعلوكةً في الشوارع، حريتي في جيبي، على أن أُحَنَّط في قيود السلطة المنمّطة. فالخبراء باتوا ينبّهون، اليوم، مما أسمَوه “عوارض الأميرة” Princess syndromes التي تترعرع عليها الفتاة، فتنسج في خيالها مُثلاً غير واقعية، معتقدةً أنه يكفي أن تكون جميلة بفستانٍ زهريٍ متطاير وحذاء برّاق، لكي تنال قلوب الجميع، بمن فيهم سعيد الحظ!

لكن المسألة ليست هنا.

ذلك أن تعليق ابني على عبارة “إصعد يا أميري”، وقع عليّ كالصاعقة، وجعلني أجزم بأن الطفل يولد عبقرياً، ثم تأتي المعرفة لتبعده شيئاً فشيئاً عن موهبته الفطرية هذه. فقد سارع بالقول: “لستُ أميراً، أنا… حيوان”!

ذُهلت، للحظات، قبل أن أوافقه الرأي، موضحةً أن حياة الحيوان أجمل بكثير من حياة الأمراء، معلّلةً رأيي هذا بأسبابٍ عدّة.

وصفتَ نفسَك بالحيوان الذي فضّلتَه على الأمير، فيا ليتك، يا حبيبي، تتمتع ببعض ميزاته!

ليت عَينيك جانبيّتان كعينَي الأرنب، لتظلَّ متأهباً لِما يحصل عن يمينك ويسارك.

ليتك تنام وعيناك مفتوحتان كالبطّ، فتبقى يقظاً متيقّظاً حتى في سُباتك.

أتمنى، يا ولدي، لو تتمتع بطاقة النحلة ومثابرتها، هي التي تلعق زهاء 4000 زهرة لإنتاج ملعقة واحدة من العسل!

ليتك تتمتع بقوة الصرصور، الذي يجرّ وزناً يفوق وزنه ألفَ مرة! فهل سبق ورأيت إنساناً يجرّ باصاً أو طيارةً أو بيتاً؟

ليت جسدك كجسد البقرة أو الماعز، يحوي أربع مَعِدات، علّك تهضم السموم التي تفتك بأجسامنا، في بلدٍ بات سلّة نفايات.

أمّا الجراد، فقد أنعم الخالق عليه بخمس أعيُن. تصوّر! تصوّر لو يملك كلٌّ منا، علاوةً على عَينَي الوجه، عيناً ثالثة في ظهره لفَضح الخبثاء والماكرين، ورابعة في أعلى رأسه لِسَبر أغوار السماء، وخامسة في أسفل قدمه ليعاين ما يدور في جهنّم، التي نتوجّسها كبُعبع منذ مجيئنا إلى هذه الدنيا.

حبيبُكَ الحوت أتى إلى الوجود قبل أن يكتمل وجهه، فظلّت أُذُناه طيَّ النسيان، وكم أحسده! لو كنتُ مثله، لَما عانيتُ، ما أعانيه، من تلوّث سَمَعي في بلد الرصاص (ابتهاجاً!) والصخب والضجيج، ولَما سمعتُ ما أسمعه من نفاقٍ اجتماعي وسياسي وفني.

في زمن الموقّت، أتمنى، يا حبيبي، لو تتحلّى بالإخلاص والولاء كثنائيّ البَجَع الذي يظل متحداً مدى الحياة.

ليتك، يا دال، تستطيع أن تُعيد تمركز قلبك فتغرسه في رأسك كالقريدس، إذ لا بدّ أن ندوس نبضاته أحياناً. فالعاطفة فخّ، قد تنتهي بنا إلى حزن!

أخيراً، أتمنى، يا ولدي، أن يكون عمرك طويلاً، طويلاً، كالببغاء والسلحفاة.

لا، أنت لستَ أميراً، فأنا أفضّل أن تكون ملك الغاب على أن تكون ملك الفساد، وأن تكون سموّ الحيوان السعيد على أن تكون سموّ الأمير التعيس. أَوَلم يقل لنا، عَبْركم، الكاتب الفرنسي العظيم أنطوان دو سانت إكزوبيري، في روايته الشهيرة، “الأمير الصغير”: “يتعرّض المرء للحزن والبكاء إذا مكَّن الغير من تدجينه”؟

لا، لن “أدجّنكَ” لتصبح أميراً.

إبقَ كما أنت: حرَاً. سعيداً. نزيهاً.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها