الأثنين ١٦ آذار ٢٠٢٠ - 08:05

المصدر: ليبانون ديبايت

التعبئة العامة تحت مجهر “رينيه كاسّان”

لا شكَّ أن فيروس كورونا الآخذ في الإنتشار، يشكل خطرًا صحيًّا قد يكون الأكثر جللًا في تاريخ لبنان الحديث. هذا الواقع يستدعي خطوات جدّية وسريعة، بعيدًا من “المقرعة” التي أمست بمثابة جزء لا ينجزء من يومياتنا السياسية والإجتماعية والثقافية والصحيّة… والملاحظة أوجهها لنفسي، قبل غيري، عسى أن أتوفّقَ في حفظها!

أعلن رئيس الجمهورية ميشال عون، تبعًا لتوصية مجلس الدفاع الأعلى “التعبئة العامة” لمواجهة الخطر الصحي. حسنًا، فلنضع النقاش حول تأخر الدولة اللبنانية في إتخاذ تدابيرٍ فعالةٍ من عدمهِ، وحول كفاءة وزير الصحة في معالجة هذا الملف من عدمها جانبًا، ولنركز في موضوع المقال.

تولي “التعبئة العامة” بحسب الفقرة 2 من المادة الثانية من قانون الدفاع الوطني اللبناني السلطات اللبنانية الصلاحيات التالية:

أ- فرض الرقابة على مصادر الطاقة وتنظيم توزيعها.
ب – فرض الرقابة على المواد الأولية والنتاج الصناعي والمواد التموينية وتنظيم استيرادها وخزنها وتصديرها وتوزيعها.
ج – تنظيم ومراقبة النقل والإنتقال والمواصلات والإتصالات.
د – مصادرة الأشخاص والأموال وفرض الخدمات على الأشخاص المعنويين والحقيقيين وفي هذه الحالة تراعى الأحكام الدستورية والقانونية المتعلقة باعلان حالة الطوارىء.

وفي حين أن التعامل الجدي والفعّال والمسؤول مع مضامين الفقرتين (أ) و (ب) هو أمرٌ في غايةِ الأهمية لإستمرار الإستقرار الإجتماعي كما الاقتصادي، تطرح الفقرة (ج) إشكالية كونها تولي السلطات قدرة الحد من التمتع بحقوقٍ أساسيةٍ هي في صلبِ منظومة حقوق الإنسان: حرية التنقل، والتعبير عن الرأي بما يتضمن من حق إستقاء المعلومات ونشرها (والتي تم الإجماع على إعتبارها أي حقوق الإنسان بعد إعلان “فيينا – 1993” بأنها غير قابلةٍ للتجزئة، مترابطة، ومتشابكة).

رُبَّ معترضٍ على رفعِ موضوعِ حقوق الإنسان في سياق الحدِّ من إنتشار فيروسٍ قاتلٍ، حيث أنّ الأولوية هي لصحةِ الناس. صحيحٌ، حياتنا وسلامتنا وصحتنا هي الأولويّة، ولكن ليس على حساب حقوق الإنسان، والتي لا تحتاج سوى لمساومةٍ واحدةٍ على المبدأ العام، ومهما كانت صغيرة، للوقوع في منزلقات التحقيق (slippery slope) وتبرير أي إنتهاكٍ لاحقٍ.

الإشكالية الثانية، هي في الفقرة (د) والتي تولي الحق بتقييد حركة الأشخاص ومصادرة الممتلكات وفرض تنفيذهم لخدماتٍ معيّنة، وهي تحيلُ إلى أحكام إعلان حالة الطوارئ (المادة 65 المعدلة بالقانون الدستوري الصادر في 21/9/1990) والتي تصدر كحالة التعبئة العامة عن مجلس الوزراء. قد يسأل سائلٌ عن مكمن الإشكالية ما دامت الغاية مما ورد أعلاه تحقيق الصالح العام.

الجواب يكمن في الفقرة الثانية من المادة 29 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي يعود الفضل فيها إلى القانوني الفرنسي الشهير Rene Cassin، الذي شارك في أعمال صياغة الإعلان العالمي.

تنص الفقرة على أنه “لا يخضع أي فرد، في ممارسة حقوقه وحرياته، إلا للقيود التي يقررها القانون مستهدفًا منها، حصرًا، ضمان الاعتراف الواجب بحقوق وحريات الآخرين واحترامها، والوفاء بالعادل من مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع في مجتمع ديمقراطي”.

تشكل هذه الفقرة إعترافًا واضحًا بواقعية تعليق بعض الحقوق (يستثنى منها الحق بالحياة، الحق بالحماية من التعذيب، الحق بالمحاكمة العادلة والحق بالتعبير عن الرأي)، لكنّها تتشدد في وضع معايير التعليق.

وبالعودة إلى كتاب Mary Anne Glendon” A World Made New” الذي يستند إلى أرشيف مداولات أعضاء لجنة صياغة الإعلان العالمي، وإلى الأرشيف الخاص لـ Eleanor Roosevelt التي ترأست لجنة الصياغة، وكما عرضها أستاذ حقوق الإنسان والقانون الدولي وائل خير في كتابه “You Don’t Have the Right to Remain Silent”، يبدو جليًا أن تعليق الحقوق لا يتم إلّا بقانون – يصدر عن السلطة التشريعية – وليس بمرسومٍ أو تدبيرٍ إداريٍّ. ولأن هذا التعليق هو الإستثناء على القاعدة العامة للحقوق، فلا بد من أن يحددَ مهلة التعليق، آخذًا بالإعتبار الإعتراف بحقوق وحريات الأشخاص.

ليس الهدف من تسليط الضوء على هذه الفقرة، وضع العصي في الدواليب، أو تقديم حججٍ لمعارضة أي خطواتٍ رسميةٍ من شأنها الحدِّ من إنتشار فيروس كورونا وحماية الناس في حياتهم وصحتهم. ولا الهدف التصويب على الدستور اللبناني (من هذا الباب) أو قانون الدفاع الوطني، إنّما لفت النظر إلى مخاطرٍ قد تهدد الحقوق الأساسية.

لنا في لبنان أمثلة لا تُعدّ ولا تُحصى في فترة الإحتلال السوري وما تلاها، عن حالاتِ التفسير الملتوية السيئة للقوانين، وحالات إساءة إستخدام السلطة في معرض غاياتٍ شخصية، لم يكن أوّلها مثلاً قرار إقفال محطة MTV، ولن يكون آخرها سحب وزير الصحة رخصة مزاولة الطب من الطبيب هادي مراد بسبب إعتراضهِ على أدائه.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها