الخميس ١٨ نيسان ٢٠١٩ - 08:16

المصدر: الشرق الأوسط

بعد التحية

لعلها مناسبة قدرية أن نقول لإخوتنا العسكريين في كل مكان، إنهم أهلنا وأحباؤنا وأبناؤنا، وإن البزة العسكرية تزيدنا تقديراً لهم ووفاء لخدماتهم الوطنية. وعندما ننتقد هؤلاء السادة فإنما ننتقد تدخلهم في السياسة. لأن الحياة الوطنية مدرستان: المدنية، والعسكرية. ولكل منهما قواعدها وأصولها وأعرافها. وما داموا قد اختاروا حياتهم إلى مدى العمر، فلا يجوز أن يتملكوا الاثنتين. فالفارق كبير جداً بين المدرستين والأسلوبين. وفي فرنسا كلما أحيلت مجموعة من الضباط إلى التقاعد المبكر، يصار إلى إدخالهم من جديد، ولمدة 6 أشهر، مدرسة الحياة المدنية. لأن السنوات التي عاشوها في الثكنة تختلف اختلافاً كلياً عن الحياة المدنية؛ ولو أن الجميع في بلد واحد وتحت راية واحدة… وفي سبيل وطن واحد.
بسبب هذا الفارق العميق فشلت جميع الأنظمة العسكرية في العالم. وقد يقول معترض: وماذا عن الجنرال آيزنهاور في الولايات المتحدة، وديغول في فرنسا؟ الجواب سريع وبسيط: كلاهما كان عسكرياً خاضعاً لنظام مدني وإدارة مدنية برمّتها. فيما عدا ذلك، تحول العسكريون بسهولة شديدة إلى ديكتاتوريين أو قُساة، أو مستبدين؛ من فرنكو في أوروبا، إلى معظم حكام أميركا اللاتينية، في مرحلة ما، تميزت بالعنف والقتل المجاني والسجون الكبيرة التي بلا نوافذ. ولم تكن تجاربنا في العالم العربي مفرحة كلها؛ فقد خسر العسكريون حروبنا القتالية من دون أن يربحوا حروب النمو والتقدم والكفاية. وباستثناء عسكري هنا أو هناك، مثل سوار الذهب في السودان، أو فؤاد شهاب في لبنان، تمسّك العسكريون بالسلطة تمسكاً أبدياً. وفرضت الجيوش حياة الثكنات على المجتمع المدني. وكان آخر الأمثلة السيد عمر البشير الذي بدأ حكمه بالاتفاق على خدعة مع مرشده حسن الترابي، وراح يتنقل، في سبيل الاستمرار بالسلطة، من خدعة إلى أخرى.
مهما كان الثمن الذي يدفعه الآن في ثكنة ما من ثكنات «العاصمة المثلثة»، يبقى ذلك ثمناً بسيطاً لما تكبده السودان من التنقل بين عسكري وآخر. ولقد تقبّلنا جميعاً، على الأرجح، المرحلة الانتقالية في الخرطوم، لكن الملاحظة الكبرى – كما في كل حكم عسكري – أن أهل السلطة الجُدد غير معروفين للناس. أهل رتب كبيرة وأسماء مجهولة، في حين أن شرعة الحكم المدني هي عادة تداول السلطة والمهام والمسؤوليات، بين أناس معروفين لدى مواطنيهم.
وقد أعلنت بريطانيا العام الماضي أنها خفضت عدد جنرالاتها الكبار من 9 إلى 5. وأصبحت رتبة الفريق شائعة في البلاد العربية، ولا بد أنها تُعطى لأُناس مستحقين، كما تقتضي الأنظمة العسكرية… إلا إنها مجرد ملاحظة من رجل مدني تابع خلال سنوات طويلة مسار الدول ونتائج الحكم بالقانون والتعلق بالأمثلة المدنية. والنموذج الأخير والأكثر وضوحاً هو طبعاً نموذج المشير البشير وعصاه، وما ترك خلفه من خراب وضحايا وجثث. فقد ضخّم كثيراً حجم المصيبة، وقزّم، كما يقول عزيزنا غسان شربل، حجم السودان.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها