الجمعة ١٣ نيسان ٢٠١٨ - 15:16

المصدر: بالصوت

تجربتي مع السلاح

بلا أي سبب صفعني جندي سوري عملاق من “الوحدات الخاصة” أمام مبنى مؤسّسة الكهرباء قرب منزلنا القديم، في محلة مار مخايل – الجميزة. كان هناك توتّر بين الجنود السوريين وشباب حزب الكتائب تلك السنة 1978 ولكن اهتماماتي كانت في مكان آخر. كنت مجرّد فتى عابر يبحث عن محل يشتري منه ربطة خبز وجريدة في الحي. مررت أمام مؤسسة الكهرباء وناداني الجندي السوري فقطعت الطريق إليه بكل هدوء، وكان منشغلاً يحادث أحداً فانتظرته لينهي حديثه. عندما أنهاه التفت إليّ وصفعني بقوّة هائلة وسألني عن اسمي مع شتيمة. يا للهول نسيت اسمي تلك اللحظات الأطول من دهر. حاولت عبثاً أن أتذكّره ولكن نسيت تماماً. صرت أتطلّع إلى الجندي العملاق كالأبله وأردّد أنّني أبحث عن ربطة خبز وجريدة. سألني عن الشباب الكتائب الواقفين أوّل طلعة العكاوي، قال إنّه رآني أحادثهم . أجبته بأنّني قلت لهم “بونجور” ولم أتوقّف ولا دخل لي بما يجري في الحيّ إطلاقاً . أمرني بأن أمشي أمامه إلى غرفة تحقيق عند مدخل مبنى مؤسّسة الكهرباء فمشيت كأنّني أشاهد فيلماً سينمائياً مخيفاً. ولكن مرّ ضابط سأله عنّي ووجّه إليّ بضعة أسئلة ثم قال له اتركه فتركني. قبل أن أبتعد صرخ بي الجندي وأقَسَم بالله العظيم أنّه إذا رآني مرّة أخرى فسيطلق عليّ النار فوراً، قلت في قلبي أنا أيضاً سأفعل الشيء نفسه إذا رأيتك.

بقيت مدّة طويلة أستعيد تلك الحادثة بمهانة وغضب.

أذكر أنّني، أنا المسالم جدّاً بطبيعتي، تغيّرت بعد الصفعة المجانية المدوّية. عرفت ماذا تعني الرغبة في الانتقام بعد التعرّض لإذلال ومهانة في حيّك وبلادك بلا أدنى سبب. حملت السلاح شهرين أو ثلاثة بالسرّ عن أهلي على أمل أن أصفّي حسابي مع أي جندي سوري ألمحه. كنت ماهراً في الصيد واكتشفت أنني ماهر في إصابة الهدف بالبندقية الحربية أيضاً. لا أحتاج إلى تدريب.

في نهار خريفي لن أنساه طوال عمري، رأيت مجنّداً سورياً يكنس الرصيف أمام مركزه العسكري على ساحة البرج، ولم يتنبّه إلى وجودي فوقه في مكان قريب منه. رأيته من كوة في طبقة رابعة أو خامسة من مبنى كان اسمه “بيبلوس”، خلف مبنى “النهار” الحالي أو في محيطه لم أعد أذكر تماماً. كنت وحدي والسكون يخيّم على الشوارع المدمّرة المهجورة. صوّبت البندقية (إم 16) إلى المجنّد السوري- ليس كبطَلي فيلم enemy at the gates فقد كانت المسافة بيننا قصيرة وكان ظاهراً كله، يستحيل ألا أصيبه – إلا أنّني بدل أن أطلق النار أخذت أتأمّل فيه. كان شاباً يميل إلى الشقرة حاسر الرأس يدندن أغنية يمكن، أغنية قروية. ورحت أتخيّل ماذا ستفعل والدته عندما يأخذونه قتيلاً إليها، وبكاء أخواته. فكّرت بأمي وبأبي وأختيّ وتخيّلتني أنا القتيل. ما ذنبه إذا وُلد سوريّاً في بلاد يُجبرون أبناءها على الخدمة في الجيش. وقلت في نفسي إنّ حافظ الأسد آخر همّه إذا قُتل أحد جنوده في ساحة الشهداء وسط بيروت. سيواصل الحرب وما يفعله في لبنان.

أنزلت البندقية . ونزلت الدرج المدمّر إلى حيث كان الشباب. ارتكبت خطأ عندما أخبرت أحدهم، وكان من رفاقي في المدرسة والحيّ بما حصل. جُنّ جنون بعضهم وهرعوا إلى الطبقة التي كنت فيها، ولم يروا أياً من الجنود السوريين. لم يفهم أحد تصرّفي، وقائد المجموعة سألني ماذا أفعل في أرض القتال إذا كنت عاجزاً عن قتل عدو. كان على حقّ. لم ألمس سلاحاً بعد ذلك النهار.
الوحشية لا تقابل بالوحشية.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها