الثلاثاء ٢٠ تشرين الأول ٢٠٢٠ - 08:44

المصدر: اللواء

ثورة 17 تشرين في المشهد الإقليمي

احتفل ثوار لبنان بمرور سنة على انطلاق ثورتهم. لا مركزية الإحتفالية، لجهة توزّعها خلال ثلاثة أيام على ساحات ومواقع عديدة، وتنوع أشكال التعبير عن الرفض لمنظومة السطة وطرق المعالجة، يعبّر عن تعدّد مقاربات التغيير المنشود. لقد حوّلت الأخطاء المتراكمة وعدم الأهليّة للتغيير والإمعان في الفراغ حالة الرفض بين السلطة والشارع المعترض إلى فوبيا متبادلة يستحيل تجاوزها، حتى لو شُكّلت هذه السلطة وفقاً للمبادرة الفرنسية. كما إنّ استمرار الكتل النيابية بالتنظير والتراشق بكلّ تفاهة ولا مسؤولية حول تفاصيل حكومة، لا ندري مدى فعاليتها إن شُكلت، دون المرور بالشارع المعترض وتجاهل حجم حركتة، لا يعفي أيّاً منها من تبعات الإخفاقات المرتكبة. فحتى الكتل التي  سبق وسجّلت مواقف معترضة على إداء  السلطة، لم تذهب حتى النهاية في ممارسة دورها المعترض، بل كل ما حاولته بعد انفجار الشارع هو محاولة تبرئة الذات وحصر المسؤولية بخصومها السياسيين.
أولاً، مما لا شك فيه أنَ جمهوراً لبنانياً متنوعاً ومتنوراً قد تشكّل حول أولويات الحياة الكريمة للبنانيين، كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات والفرص في دولة عصرية تمارس سيادتها على كامل ترابها دون أيّة مواربة وضبابية وأنصاف مواقف. هذة الشريحة من اللبنانيين هي النواة الصلبة التي ستؤسّس للبنان الجديد، وهي تشكّلت بمعظمها خارج إطار الموروث السياسي الطائفي. وبمعنى آخر، هناك دفع لقيام جمهورية لبنانية جديدة تجاهر بقيّم جديدة، ستكون في أساس أي نشاط سياسي، وستكون في رئاسة البرامج التي ستخاض على أساسها الانتخابات النيابية المقبلة، بمواجهة أحزاب متقوقعة على نفسها لن تقوى على الخروج من شرنقتها الطائفية. هذه القيّم الحداثيّة ستقدّم مساحة مشتركة للتواصل مع الغرب، وستقدّم لبنان كدولة لشعب واحد خارج دائرة الخصوصيات، وليس كمساحة يسكنها عدة شعوب.
ثانياً، لقد تحللت الدولة كوظيفة ودور بنظر اللبنانيين بعد عجزها المتمادي في كلّ المجالات. يدرك اللبنانيون أنّ الشأن العام بشقيّه السياسي والاقتصادي لم يعد منتجاً وطنياً، بل شرطاً دولياً يتذاكى السياسيون في إظهار قدرتهم على التلاؤم معه. لقد قدّمت مسألة ترسيم الحدود لناحية الشكل والمضمون والتوقيت والمفردات المستعملة مثالاً ساطعاً على خضوع السلطة للأجندات الدولية، يضاف إلى سابقاته من المبادرات الإقتصادية، من «سيدر» إلى المفاوضات مع صندوق النقد، أو تلك السياسية من تسميّة رؤساء الحكومات إلى احتفاليات تبادل الأسرى.
لا تملك الدولة القائمة إيّ قدرة على القرار في تفاصيل حياة اللبنانيين، حتى العادية منها. التواصل بين السياسيين في لبنان أضحى أيضاً تقليداً دولياً ينتظر موفداً من خارج الحدود يوزّع زياراته عليهم، ويغدق عليهم التوجيهات والمواقف. يثق المجتمع اللبناني أنّ شريحة متحررة من أعباء تلك الإصطفافات المزمنة ستمتلك الجرأة والثقافة الكافية والقدرة على التواصل بشفافية مع المؤسسات الدولية، غير مثقلة بموروث من تجارب تقيّد حركتها وتجعل منها رقماً في معادلة حصيلتها صفر على المستوى الوطني.
ثالثاً، لم تستوعب الأحزاب السياسية في لبنان حتى الآن فكرة سقوط الإيديولوجيا، التي سقطت أساساً مع انهيار الإتحاد السوفياتي. استمرت الإيديولوجيا في لبنان تعيش على «موروث إمبريالي» قوامه فتات الصراع العربي الإسرائيلي والموقف من اتّفاقات السلام، وقد أذكاها سابقاً ثقل النظام السوري ولاحقاً المـدّ الإسلامي الزاحف من طهران، تحت شعار تحرير القدس ومحاربة الإرهاب لاحقاً. وعلى ضفتيّ هذه الإيديولوجيا بُنيّت المقدّمات النظريّة للأحزاب اللبنانية، وأضيفت إليها منطلقات للصراع المحلي على السلطة والدور أسّست للميليشيات المحلية سابقاً.
 وصلت مفاعيل سقوط الإيديولوجيا وإن متأخرة إلى لبنان مع توقيع اتّفاقات التطبيع وإطلاق مفاوضات الترسيم، فسقط التمايز بين الأحزاب على الموقف الإقليمي، وسقط معه التمايز في الموقف الداخلي الذي فقد فضاءه النظري، المبني في الأصل على الموقف الإقليمي. الأحزاب اللبنانية أضحت محاصرة بعدم القدرة على التمايز في الخطاب الإقليمي وفي انكشاف فشلها أمام الشارع في الداخل. وإنّ الخروج من المأزق يستدعي شجاعة التخلّي عن الموروث السابق برمّته، وإخراج كلّ ما بُنيّ على التجارب السابقة من دائرة الحسابات الوطنية. إنّ السباق السياسي الجديد يخضع للقدرة على النجاح في إدخال لبنان مسار التكامل مع العالم الجديد، بقيّم الحرية والمساواة والحداثة السياسية.
تتزامن ثورة اللبنانيين مع مسار تغييري جذري تشهده المنطقة، وتبدو قوى الثورة أمام هذا التّحدي سيّما أنّها الأكثر قابلية ومرونة على خوض تجربة قواعد الإشتباك الجديدة. إنّ قوى الأمر الواقع وقوى التقليد السياسي مدعوّة  لإدراك حجم المتغيرات الجديدة التي طوت معها كلّ قواعد المرحلة السابقة،ّ والإندماج مع خطاب المعارضة التي ستنتزع دورها في تركيبة السلطة الجديدة. إنّ القدرة على النجاح والتكيّف مع المرحلة الجديدة تتطلب الكثير من الجرأة، والكثير من التضحيات، حتى بما اعتقده البعض من المقدّسات سابقاً.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها