السبت ٢١ تشرين الثاني ٢٠٢٠ - 08:35

المصدر: جنوبية

حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: المبادرة الفرنسية.. أزمة استشراق أم غياب العصا والجزرة وصفارة الحكم

بدت السياسة الفرنسية تجاه لبنان والشرق العربي متميزة ومختلفة عن سياسات دول الخليج العربي وسياسة ادارة ترامب الشرق أوسطية، وظهر هذا التمايز والاختلاف في محطات متعددة وأزمات متكررة، وجذر هذا الاختلاف ابتدأ بالموقف من إبرام الاتفاق النووي الذي أنجزته دول الخمس زائد واحد (٥+ ١) مع إيران، والذي أدى لرفع العقوبات الدولية على ايران، في عهد الادارة السابقة، اثناء ولايتي الرئيس أوباما.
وقد أتاح الغاء العقوبات، بعد توقيع الاتفاق ومصادقة مجلس الامن الدولي عليه، فرصاً واسعة أمام كلٍ من فرنسا وألمانيا وشركاتهم العملاقة لتأسيس وتوسيع استثمارات واعدة، في السوق الايرانية النهمة والمقفرة، في مجالات التنقيب عن الغاز والنفط، وتطوير مصافي تكرير النفط الخام وتحديث تقنياته، كما في تحديث وتجهيز وسائل الطيران المدني وتقنيات المعلوماتية والاتصالات والاقتصاد الرقمي، وصولا الى مجالات التجهيزات الطبية والاستشفائية، وبسبب ذلك شكل خروج ادارة الرئيس ترامب من الاتفاق النووي مع ايران واستعادة فرض العقوبات على طهران ومن يتعامل معها، خسارة صافية اوروبية وصينية، وأرغمت الشركات التي بدأت استثماراتها على الانسحاب من السوق الايرانية وعلى تكبد خسائر بلغت عدة مليارات من الدولارات في كل قطاع من قطاعات الاستثمار فيها. ولم يكن هذا الافتراق الأميركي الاوروبي بعيدا عن موقف خليجي كان يعتبر اسقاط الاتفاق مناسبة غالية لربط النزاع مع ايران بأمرين جرى تجاهلهما في الاتفاق المنجز في عهد اوباما، وهما ترسانة الصواريخ الباليستية الايرانية من جهة أولى وتمدد النفوذ الايراني في دول المحيط المشرقي العربي وصولا الى الحديقة الخلفية للمملكة العربية السعودية في اليمن.
على قاعدة هذا الافتراق الاميركي الخليجي من جهة والاوروبي من جهة ثانية، جرى تدوير الزوايا بين الفريقين بحيث أيدت فرنسا مطلب اعادة البحث بترسانة الصواريخ البالستية الايرانية، في أي صياغة لتعديل الاتفاق النووي، فيما امتثلت حكومات وشركات أوروبا لإعادة العمل بالعقوبات الاميركية، ولم تنفع آلية التجارة الاوروبية مع ايران المسماة (أينستكس) بتخفيف آثار العقوبات الأميركية أو الحد من أضرارها، مما حصر التمايز الاوروبي بالموقف المبدئي الذي لا ترجمة عملية له. من جانب آخر، حرصت فرنسا ومعها دول الاتحاد الاوروبي الى رفض سياسة ترامب بالنسبة للقضية الفلسطينية ورفضت سياسة نتنياهو بضم هضبة الجولان الى حدود الكيان الاسرائيلي، كما عارضت بحزم سياسة الاستيطان الاسرائيلية وتهويد الضفة الغربية وأدانت نقل السفارة الاميركية الى القدس، متمسكة بحل الدولتين وقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. ولم تلق تلك السياسات والمواقف أي ترحيب عربي خليجي، في الوقت التي كانت تترتب فيها معاهدات السلام بين اسرائيل من جهة والعديد من الدول العربية، وصولا الى تطبيع العلاقات وتبادل زيارات معلنة بين أطراف تخاصمت طويلا ولم تجري بينها اية حروب أو معارك.

اما المحطة الثانية في تمايز السياسة الفرنسية عن سياسات دول الخليج وخاصة السعودية، كانت في الحركة الفرنسية خلال ازمة استقالة الرئيس الحريري من السعودية، وقيام الرئاسة الفرنسية بتفكيك تداعيات الاستقالة والمبادرة لتشكيل غطاء سياسي في لبنان يحفظ استقراره، ويستعيد التزام لبنان وحكومته واحزابه بسياسة النأي بالنفس التي كانت تعبيرا ملطفا لمطلب أميركي خليجي يتلخص بتقليص نفوذ ايران في المنطقة وبإنهاء تدريجي لدور حزب الله الاقليمي، فيما يعقد بالتوازي مع ذلك مؤتمر “سيدر” لإعادة تنشيط الاقتصاد اللبناني وعودة النمو الى قطاعاته الانتاجية، واستقطاب استثمارات جديدة الى أسواقه، وقد رُبط تنفيذ وعود التمويل والمساعدة بشروط اصلاحية تتناول قطاعات الكهرباء والاتصالات وضبط العائدات الجمركية وضبط المعابر الحدودية في البحر والبر والجو، إضافة لإعادة النظر بحجم القطاع العام وإنتاجية الادارة والمؤسسات العامة. وقد فشلت الطبقة السياسة الحاكمة، بعد التسوية الرئاسية التي اوصلت الجنرال عون الى سدة الرئاسة، في إقرار هذه الاصلاحات أو تنفيذ جزء يسير منها. لم تكن السياسة الفرنسية لحينه تنطلق من رغبة فرنسية خيرية في مساعدة لبنان والحفاظ على استقراره انطلاقا من اعتبارات تاريخية وثقافية وانسانية فقط، أو تطال الحرص على وجود المسيحيين وتعايشهم مع المسلمين أيضا ، بل واضافة لكل ذلك، كانت ترتكز على جملة من مصالح فرنسية متصلة باعتبارات استراتيجية متعلقة بالسوق الايرانية والاستثمارات الواعدة فيها في مجالات الطيران المدني وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، كما تتعلق باستثمارات الغاز والنفط التي تبدأ في ايران وتمتد حتى شرقي البحر المتوسط في ليبيا ومصر ولبنان وقبرص، كما تتعلق بسلامة قوات اليونيفيل العاملة في جنوب لبنان وباستقرار مخيمات النازحين المنتشرة في لبنان والمرشحة للهجرة باتجاه اوروبا في حال زعزعة الوضع اللبناني وانفلات غارب العنف في ربوعه.
مع إنفجار المواجهة بين إدارة ترامب ،متحالفة مع دول الخليج العربي من جهة أولى، وايران وحلفائها في تشكيلات فيلق القدس، وذهاب كل طرف من أطراف الاقليم الى الانتظام في إحدى ضفتي الصراع من اليمن الى العراق الى لبنان، على مدى السنوات الاربع الماضية، أرادت فرنسا أن تشق لنفسها مسارا مستقلا، يضعها في موقف الوسيط والحكم، فتمسكت بشرعية الاتفاق النووي مع ايران، لكنها أيدت إدخال تعديلات جوهرية تطال الترسانة الصاروخية وتقليص تمدد النفوذ الايراني، رفضت العقوبات الاميركية، لكنها و شركاتها التزمت بعدم انتهاكها، عقدت جلسة افتتاحية لمؤتمر “سيدر” وأمنت وعودا عربية ودولية بتمويل بلغ ١٢ مليار $ اميركي تدفع لمشاريع بنى تحتية في لبنان. على قاعدة هذا الموقف اعتبرت فرنسا أنها ستكون صاحبة المبادرة الاولى في أي مسار تفاوضي لاحق وجديد، يفتح بين ايران واميركا، لصياغة تعديلات جديدة تعيد صياغة الاتفاق النووي الايراني وتسترجع احياءه، كما اعتبرت أن لبنان يمكن أن يكون أول حلقة من حلقات تراجع النفوذ الايراني ووقف تمدده، لذلك انطلقت المبادرة الفرنسية مفترضة صلاح أمر، طالما تكرر فشل محاولات تطبيقه في لبنان، من قبل اطراف عديدة وفي ظروف سياسية ودولية مختلفة، هذا الأمر هو إمكان تحييد أزمة لبنان عن أزمة المنطقة، وإمكان تغيير سلوك الاطراف المرتهنة لسياسات اقليمية باستدراجها لسياسات وطنية لبنانية تضع مسافة فاصلة بين المصلحة اللبنانية من جهة ومصلحة الطرف الاقليمي الذي يرعاها.
بعد انفجار المرفأ استنتجت ادارة السياسة الفرنسية؛ أن ما كان متعثرا في السابق حول اقرار اصلاحات مؤتمر سيدر، أصبح متاحا وقريب المنال بعد الكارثة وحجم الدمار، وان الحاجة الماسة لسيل من المساعدات الانسانية والغذائية، والى تمويل عاجل وفوري، يمنع انهيار النظامين التعليمي والصحي في لبنان، والى مساعدات تعيد تأهيل واعمار المناطق المنكوبة، بيوتا ومؤسسات ومرافق عامة، ان الحاجة لكل ذلك ستدفع طبقة الفشل والفساد والارتهان الى الخارج، بان تبدل جدول اولوياتها، لتضع الاغاثة والاعمار في مقدمة روزنامتها السياسية، بحيث تتعفف عن سياسة اقتسام عائدات الدولة كمغانم شخصية، وتقبل بإغاثة افراد قبائلها وجماعاتها، فتحميهم من المرض والجوع والجهل والبطالة والهجرة، وهو سلوك طالما خبرته فرنسا مع شيوخ وزعماء العصبيات القبلية والجماعات في مستعمراتها السابقة، حيث يدرك كل زعيم عصبية، ان الشرط الشارط لاستمرار سلطته، هو الحفاظ على حياة ونمط عيش افراد جماعته واستقرارهم في بيئتهم، واعادة انتاج صلاة التضامن والتعاضد الاجتماعي وتفعيل اواصر القرابة او الانتماء الطائفي فيما بينهم. هذا على الاقل ما علمته معاهد الاستشراق الاوروبي وفرضته كأداة تحليلية لفهم مجتمعاتنا الآسيوية، ولذلك لم تتعامل فرنسا مع ثورة ١٧ تشرين كحدث مفصلي في التاريخ اللبناني، ولم تأخذ على محمل الجد اصوات ملايين اللبنانيين الذين خرجوا الى الساحات يعلنون قيما جديدة ثورية تُخرج الناس من عباءات زعمائهم وتدين الفساد كجريمة وتطالب بدولة مدنية حديثة، ولم تستطع أن ترى الشيعة في لبنان الاَ رعايا للثنائية الحزبية، هذا الفهم الاستشراقي فاته تيويما (updating ) لتحديثه، فبعد مئة عام على اعلان ” دولة لبنان الكبير” نشأ شعب لبناني تتبنى نخبه مفاهيم العصر والحداثة والديموقراطية ودولة المواطنة، اما على صعيد اطراف السلطة، فالقبائل او العائلات والجماعات اللبنانية التي تعامل معها الانتداب الفرنسي وتركها تحكم لبنان حتى بداية الحرب الاهلية تغيرت وتبدلت عناصر لحمتها وبنيتها، فانتقلت من الاجتماع الاسيوي الى الطبيعة السيسيلية ( Cecile) أوالنابولية (Napoli) اي علاقات العائلات المافيوية، التي تستقطب افرادها من أي وعاء اجتماعي ولو كان من عصبية قرابية اخرى، ولا يشغلها الحفاظ على تماسك البيئة وسلامة افرادها، لذلك بدا حوار الرئيس الفرنسي مع اطراف الطبقة السياسية اللبنانية كحوار طرشان: “كل طرف لبناني يرحب بالمبادرة الفرنسية ويقبلها، وكل واحد منهم يطالب بحصته” في الوقت الذي تعتمد هذه المبادرة على معيار الكفاءة وانهاء المحاصصة في السلطة.
يطرح مسؤول فرنسي سؤالا يستغرب فيه سلوك سياسيي لبنان، مقارنا بين نجاح المبادرة الاميركية بترسيم الحدود بيت لبنان واسرائيل، وفشل المبادرة الفرنسية بتشكيل حكومة تنقذ شعب لبنان من الفقر والبطالة والانهيار الاقتصادي، والفارق بسيط وجلي اميركا تملك في لبنان “جزرة الترغيب” في المساعدات المالية من دول الخليج وصندوق النقد الدولي، وامدادات الجيش اللبناني من الاليات والتجهيزات والاسلحة العسكرية، وتملك ايضا “عصا الترهيب” بالعقوبات المالية والاقتصادية، أميركا، وهذا هو الأهم، تعلم انها تتعامل مع منظومة مافيوية لا تتنازل الا اذا تم ارعابها، ولا تبدي تعاونا الا طمعا بمكسب، أما فرنسا فهي مشغولة بصياغات لغوية لسياسات لا تتحول الى وقائع، لانها تعتمد تشخيصا استشراقيا حول زعماء عصبيات، لم يعودوا كذلك، بعد ان تحولوا الى مافيات، وتفتقد الى جانب عصا الترهيب وجزرة الترغيب، تفتقد صفارة الحكم وهيبة شيخ الصلح.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها