الأثنين ٢ كانون الأول ٢٠١٩ - 08:37

المصدر: Arab Economic News

رحلة البحث عن الثقة!

منذ 47 يوما، يخوض لبنان مغامرة بحثا عن فتات الثقة التي تناثرت على مدى عهود، عهدت خلالها السلطة المسؤولة إلى تبديد مشاعر “الوطنية” لمصلحة الزبائنية بكل مندرجاتها، ولتضلّ البلاد طريقها نحو الأمن والآمان.

منذ 47 يوما، يهتزّ الشارع تحت أقدام إقتصاد مهترئ استجلب تصنيفا مكلفا، ودولار متفلت استحدث تضخما طارئا وعطّل دورة القطاعات وشلّ الحياة، وودائع مسجونة في مصارف سجنت دولاراتها في سندات “يوروبوند” كرمى لعيون التقصير السياسي في إصلاح إنحراف المالية العامة.

منذ 47 يوما، ساد شبه صمت سياسي منذ عَلَت كلمة الشعب، وغاب معظم نجوم الشاشات قبل عودتهم بـ”خفي حنين”، يطلقون تحليلات لم تصب يوما، ويلقون بالمسؤوليات عن التقاعس لإنقاذ اللبنانيين من إنهيار تسبّبت فيه سياسات لامسؤولة أضاعت الكثير من الفرص ولا تزال تعد بالكثير أيضا.

“مجموعة الدعم من أجل لبنان” تلتئم هذا الشهر كما تردّد، بحثا عن حل سياسي يطوي الأزمة المستجدة. مليارات “سيدر” الذي تعطّلت آلياته، تنتظر على باب حكومة موعودة يسعى رئيس الجمهورية إلى ضمان تأليفها قبل إطلاق مشاورات التأليف حرصا على معادلات تحفظ مقاعد وحقائب سيادية لئلا يشعر أي من الأحزاب أنه وُضع على الهامش. وفي الموازاة، تتجاهل السلطة تأثير العقوبات على “لبنان-حزب الله”، رغم بدء ظهور المفاعيل التي تشعبّت بمساهمة “فقدان الثقة” لتساهم في تأجيج الأزمة النقدية التي طالت تردداتها إقتصاد سوريا.

في رحلة البحث عن الثقة، توالت الصدمات. صُدمت السلطة بثورة الشعب وما زالت تعمل وكأنها تملك “رفاهية الوقت”. صُدم الشعب بتمسك الأحزاب بالسلطة رغم وضوح المطالب وحجم الغضب النابع من حال العوز والفقر في ظل إنعدام فرص العمل. وأيضا، صُدمت الليرة بتخلي الجميع عنها والهرولة نحو الدولار بعد أعوام ركزت خلالها على عامل “الوفاء” للعملة الوطنية. كذلك، صُدمت المصارف بتهافت المودعين يوميا طلبا للعملة الخضراء وإن كان الغرض تكديسها في المنازل لحفظها من تدابير مؤلمة تبدأ بالـCapital Control وقد لا تنتهي بالـHair Cut. وصُدم الصيارفة بإنتعاش أعاد “السوق السوداء” بعد غياب منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. وصُدم المجتمع الدولي بلامبالاة وتعنت الداخل رغم محاولاته لإنعاش بات ضرورة لجلب مليارات وفق برامج إنقاذية تعيد دورة الحياة إلى الإقتصاد.

صحيح أن لبنان يحتاج إلى صدمة لكن “إيجابية” تعيد الثقة بطاقم حاكم يفترض أن يغيّر قواعد ممارسات غالت في تقاسم خيرات البلاد.. حتى في زمن الشحّ. فلا مبادرة سياسية جادة لوقف النزف الحاصل، حتى أن حكومة تصريف الأعمال لم تجد مبررا لعقد اجتماع يذلّل العقبات التي تعترض الحياة اليومية للبنانيين. وحده قصر بعبدا بقي مفتوحا أمام محاولات خجولة لم تبلغ مداها الفعلي، طالما بقيت العِقد الأساس تعوّق إيجاد الحلول اللازمة. فما نفع إجتماعات تعالج النتائج دون المسببات؟

في السياق المتدرج هبوطا، جاء اجتماع بعبدا المالي نهاية الأسبوع ليحاول تخفيف التداعيات تمهيدا لتهدئة الأسواق، وتخفيف عبء الأزمة المعيشية التي تتهدّد اللبنانيين بوقف حلقة الإستيراد التي بدأت تفضي إلى نقصان سلع وارتفاع أسعار أخرى تندرج في خانة “السلة الغذائية”.

وسط تلك المؤشرات، بقي مَن يصوّب السهام خارج دائرة الأهداف ليزيد تأجيج المخاوف وليمعن في التضليل. فكان لافتا ما كتبته مراسلة صحيفة “الفايننشال تايمز” في بيروت، من أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة “تصرّف لسنوات وكأنه المموّل الأساس للدولة التي تفتقد إلى مشروع إنقاذ حقيقي وتعاني قصوراً كبيراً في النمو. حمل هذا الرجل الذي يتمتع بسمعة عالمية، أعباء سواه من السياسيين الفاشلين وتقصيرهم في إدارة إقتصاد الدولة”. وأشارت إلى محاولات لـ”شيوعيين سابقين من بقايا الإتحاد السوفياتي” لتشويه صورته وضرب آخر معقل للإقتصاد الليبرالي الحر في لبنان وتهديد أموال المودعين، في حين يؤكد سلامة أنه لن يسمح بالمساس بها على الاطلاق.

شهادة لا تحتاج إلى شاهد. فالحاكم حريص على الودائع والمودعين والليرة. ولم يفرّط بأي منها رغم الأزمات السياسية (الفراغ الرئاسي بين 25/5/2014 و31/10/2016) والخضات الأمنية (إغتيال الرئيس رفيق الحريري وحرب تموز/يوليو 2006 و7 أيار/مايو 2008) والإنهيارات المصرفية (“بنك المدينة” و”البنك اللبناني الكندي” و”جمال تراست بنك”).

ومنذ بدء أزمة الدولار/الليرة وثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر، عارض سلامة عملية الإقتطاع من الودائع Hair Cut، وأكد في مؤتمره الصحافي الأخير أنه يعمل على “إستقرار” الليرة بعد إهتزازها عقب الإحتجاجات التي تسبّبت بـ”سحب أوراق مالية في الأشهر الـ5 الأخيرة أكثر مما سُحب في السنوات الـ3 الماضية”، مقدّرا الحجم بنحو 3 مليارات دولار. وقال إن الهدف هو “حماية المودعين والودائع، ولن يكون هناك خصم منها، إذ من غير الوارد أن يتحمل المودعون أي خسائر”.

وهذا ما تسرّب من إجتماع بعبدا، فضلا عن إجراءات تمنع التلاعب بسعر الدولار الرسمي وتخفّف من حدة الـCapital Control ورفع سقوف السحب مع ضوابط تنظيمية، وربما الأهم، الطلب من الطلب من المصارف زيادة رساميلها، لتؤمن 4 مليارات دولار من ودائعها في الخارج، موزعة بالتساوي هذا العام والذي يليه… بعض المصارف بدأ الإلتزام، وللمتخلفين إجراءات عقابية.

المهم أن السوق السوداء باتت تحت أعين لجنة الرقابة على المصارف، بعدما اتسع هامش المضاربات. بدءا من اليوم، تصدر التعاميم والإجراءات التنظيمية لتمتصّ مخاوف اللبنانيين، لكنها حتما تحتاج إلى إجراءات من نوع آخر… إلى حكومة جادة للإنقاذ وقادرة على إنهاء رحلة البحث عن الثقة.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها