الخميس ١٢ آذار ٢٠٢٠ - 09:13

المصدر: المدن

سامي الجميّل وسياسته

أفضت 17 تشرين إلى إقصاء ثلاثة أحزاب كبرى هي “تيار المستقبل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” و”القوات اللبنانية” من موقع المعارضة، بعدما سحبت الأكثرية الشعبية آخر رصيد ثقة بهذه الأحزاب، بوصفها قائدة لمواجهة سياسات “العهد” والتيار الوطني الحرّ والثنائي الشيعي، وبالأخص ادعاء الاعتراض على سلطة حزب الله وهيمنته.

خسرت تلك الأحزاب “ثقة” جمهور واسع من اللبنانيين، سياسياً وأخلاقياً. فهي إضافة إلى مسلسل التسويات المشين الذي بات نهجها الدائم، كانت متواطئة ومشاركة (بتفاوت، صوناً لسمعة وزراء “القوات اللبنانية”..) في الفساد الفاحش وفي حفلة الفجور السياسي، ومنظومة “المناهبة”، كما وصفها أحمد بيضون.

في المقابل، لم يجد “شعب” 17 تشرين تلك الجبهة السياسية التي يمكنها توليف معارضة وطنية عابرة للطوائف، متسامية فوق خطايا السلطة وأهلها. لم يجد ائتلافاً يمكنه رسم “برنامج” للثورة، أو صوغ خطاب مرحلي جامع، على مثال ما جرى ما بين العام 2000 و2005، حين تأسست معارضة وطنية قاطعة مع إرث الحرب وانقاساماتها، وهو ما عُرف لاحقاً باجتماعات بريستول، التي خاضت “انتفاضة الاستقلال” في ذاك الربيع الذاوي والمنطفئ.

المجموعات والأحزاب الصغيرة (وحتى الجمعيات والمنتديات والروابط) التي لعبت دوراً بارزاً في انتفاضة تشرين، غلب عليها “الحياء” السياسي، بل وفضّل بعضها “العذرية” السياسية كعلامة على خلوها من النجاسة وامتيازها بالطهارة والبراءة. وكان هناك بالطبع مجموعات “متطرفة” سياسياً، مغالية في رغبتها الاستئصالية ولغتها الثورية، تغلب عليها نزعة “الفرقة الناجية” التي تحشر الجميع في الجحيم، بما ينفح شعار “كلن يعني كلن” نكهة “إرهابية” وإقصائية راديكالية.

وعلى الأغلب، كان ثمة ميل شعبي وعمومي حقيقي وصادق إلى تفادي الصدام مع حزب الله خصوصاً، وتحاشياً لشبهة 14 آذار، أو لإعادة تعويم قسمة 8 و14 المستهلكة، ما دفع إلى إزاحة “السياسة” جانباً، والتركيز على “المطالب الإصلاحية” وحسب.

من ناحية أخرى، وبقدر ما تُسجل لأحزاب “الشيوعي” أو “التنظيم الشعبي الناصري” شجاعة تحدي “أوامر” حزب الله، والتمايز عن “حلف الممانعة” في الانخراط بلا تردد ولا مخاتلة في الانتفاضة، بقدر ما يُسجل عليها خجلها من الانفتاح على مجمل مكونات هذه الانتفاضة وخجلها غير المقبول في الخطو نحو تحالفات جديدة وخطاب سياسي جديد. فاستكانت إلى طمأنينة “المطالب المعيشية” وإلى استحضار تراثها اليساري (معاداة الأوليغارشيا).

في ميدان الانتفاضة، لم يكن فقط أهل اليسار. “الكتلة الوطنية” كانت حاضرة. والحضور الأبرز كان للكتائب أيضاً. ويمكن أن نضيف إليهم كتلة كبيرة من الخارجين على أحزابهم، كالعونيين السابقين.

ليس فقط الموقع الجغرافي لبيت الكتائب لصق ساحة الشهداء هو ما دعم حضور الحزب وأنصاره. بل أيضاً موقع سامي الجميل في قلب الحدث.

وحيداً، بدا سامي الجميّل في انتخابات عام 2018. ودفع ثمن رفضه للتركيبة السياسية، وللعبة “المعارضة من داخل التسوية”. وكاد ذلك يؤلب “البراغماتيين” داخل حزبه عليه. كان خياره واضحاً تقريباً كوضوح وحدته وعزلته.

خلال هاتين السنتين، راح سامي الجميّل يشبه أكثر أخاه الشهيد بيار الجميل، في مخاطبة اللبنانيين، وفي السعي المحموم لبلورة معارضة جدية قاطعة مع مثالب النظام ومخاصمة عنيدة لـ”العهد” ولواقع الأمر الذي يفرضه فائض قوة حزب الله. والأهم، تدبير لغة عابرة للحزبيات وللحساسيات الطائفية، متخلصاً نسبياً من رطانة “الكتائب”. كان الرجل يحاول استعادة المعنى لشعار كتائبي قديم، إنما خالياً قدر الإمكان من شوائب العصبية: “في خدمة لبنان”. عندما نزل إلى ساحات الانتفاضة، كان منسجماً تماماً مع نسق عمله البرلماني الذي لطالما عبّر عن الشعارات والفحوى السياسية ذاتها لصرخات المتظاهرين. لم يبذل أي جهد كي تقبله الناس خارج قفص “كلن يعني كلن”.

في مؤتمره الصحافي يوم الثلاثاء، تلا ما يمكن تخيله البيان السياسي للانتفاضة، حين قال محدداً باختصار المسؤولين عن الكارثة الوطنية:

 “أولاً، المنظومة الحاكمة التي هدرت أموال الناس وأساءت الإدارة، بالتواطؤ مع المقاولين. والأموال التي اختفت موجودة في هذا المكان. ومن هنا يجب بدء المحاسبة.

 ثانياً، مسؤولية المصارف التي أعطت الأموال من دون وضع شروط، واستفادت من الفوائد العالية لتحقيق أرباح.

وثالثاً، “حزب الله” الذي وضع كل البلد في وضع عزل وتسبب بأزمة اقتصادية، جراء أدائه إن كان بسبب وجود ميليشيا في لبنان أو بدخوله في حروب المنطقة”.
ورأى الجميل أن “الحاجز الأساسي للإنقاذ اليوم هو “حزب الله” أولاً، فهو الذي يمسك بقرار الحكومة. وبالتالي كل الإصلاحات المطلوبة للإنقاذ محلها في مكان واضح وصريح”.

رغم صراحة الجميّل، إلا أنه من الصعب القول أنه كان استفزازياً، إذ خاطب جمهور حزب الله، قائلاً: “الرهان على وعي جمهور “حزب الله” الذي رأى حقائق كثيرة في الأشهر الماضية واللبنانيين المتحدين من كل الطوائف، وهو يواجه هذه العملية. وهناك جزء من جمهور الحزب يريد أن يرى دولة جديدة وفرص عمل وحضارة وتطوراً. وهذه فرصة له لأن يلعب دوراً”.

لا أدري إن كان هناك أحد لا يستسيغ قوله، في المؤتمر نفسه: “إن هناك مجتمعاً لبنانياً نابضاً. ورهاننا كبير على النبض الجديد الموجود في البلد، بوجه النمط القديم المدمر الذي أوصل البلد إلى ما وصل إليه”.

فقط، من شعر بالاستفزاز كما بتنا نعرف هم شبيحة السلطة، من طينة الذي أطلق الرصاص على بيت الكتائب فجر الأحد الماضي.

أغلب الظن، أنه حان الوقت، مع سامي الجميل و”الكتلة الوطنية” والحزب الشيوعي وكل مجموعة معنية بطموح التغيير، لذاك السعي إلى صنع “معارضة سياسية” في جبهة وطنية تقطع مع الاصطفافات السابقة، وتجدد الانتفاضة بأهدافها الكبرى، بأمل “جمهورية ثالثة” تليق بنا جميعاً.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها