الأربعاء ٢٥ كانون الأول ٢٠١٩ - 19:09

المصدر: المدن

سنة الثورة والقبض على الدولة

انها السنة الأصعب والأزمة الأقصى التي يواجهها لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية في العام 1990. فالثورة التي انفجرت في 17 تشرين الأول بوجه الطبقة السياسية الحاكمة، جاءت نتيجة تراكم للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتعددة.

اتسم غضب الشارع بتلاقي مصالح جميع المتضررين من سياسات السلطة على اختلاف انتماءاتهم السياسية، الطائفية، المناطقية والطبقية (إذا صح التعبير)، كل من موقعه ووجعه وأزمته الخاصة. شباب، نساء، عمال وفئات مهمشة.. ناشطون، مجموعات، محازبون وحتى احزاب. تلاقوا في الشارع وتقاطعوا على جملة مطالب وأهداف.

ميزة هذه الانتفاضة الشعبية العارمة أنها لم تتمركز كسابقاتها في العاصمة بيروت، أو في أي مكان محدد، بل انتشرت في معظم المدن والبلدات اللبنانية، من الشمال إلى الجنوب في مشهد سرّيالي جميل، وفي حركة “لا مركزية” لافتة جداً.

في المقابل، سلطة هرمة عاجزة، تجمعها المصالح، تأكلها الانقسامات وينخرها الهدر والفساد والمحسوبيات. بعضها يعيش حالة إنكار تام، وبعضها الآخر قزّم ما يجري في الشارع واعتبره مسألة ايام فقط. قلّة قليلة رأت خطورة المشهد القاتم التي كانت تحذر منه باستمرار، والتي قاربته بشقيه السياسي والمالي – الاقتصادي وتوقعت الانفجار القريب.

بيد أن الأمر الأكثر غرابة، تجلّى في قدرة القابضين على زمام السلطة بتسخيف الأمور واللعب على حافة الهاوية وعدم استماعهم لمطالب الناس المحقّة، وعدم استعدادهم لتقديم اي تنازل يُذكر لمراعاة مصالح البلاد والعباد.

السلطة في لبنان “سلطات”.. سلطة شكلية، سطحية، مصلحية وطموحة. وأخرى أقلوية أضحت غير مؤثرة. أما الثالثة، فهي تمتلك رؤية واضحة ومخططات وأهداف، تمتلك القوة ولديها وفرة بالإمكانات ويديرها مطبخ واحد كامل التجهيزات. إنها السلطة العميقة.

في البدء، كان الصراع سلطوي – سلطوي، لكن انتفاضة تشرين فرضت الشارع لاعباً أساسياً (حتى الآن) وغير متوقع. “مصيبة” الشارع دفعت بالسلطة (السلطات) إلى محاولة رصّ الصفوف وتقليص تناقضاتها، باستثناء الجزء الذي انحاز منذ البداية إلى مطالب الشارع المحقة.

حاولت السلطة جاهدة، وبوسائل شتّى، استيعاب الشارع وتطويعه وتطويقه. وعندما عجزت عن ذلك، بسبب إصرار الناس غير المسبوق على المطالبة بأدنى حقوقهم ومكتسباتهم السياسية والمعيشية، ذهبت السلطة باتجاه شيطنة هذه الحركة، ودفعت بالناس إلى اللعبة التي تتقنها، أي لعبة التوتير الأمني والشحن والتحريض الطائفي والمذهبي والمناطقي. مستفيدة من بعض أساليب الاعتراض والضغط في الشارع كـ”تسكير الطرقات” مثلاً.

من جهة أخرى، حاول أركان السلطة الأساسيين التشاطر على بعضهم البعض، كما حاولوا استغلال حركة الشارع ومطالب الناس فيه، من أجل تحقيق بعض المكتسبات وتحسين شروط التفاوض. كما عمدوا إلى استخدام شوارعهم (الحزبية والمذهبية) بوجه المواطنين المنتفضين، وبوجه بعضهم البعض.

لعبة التشاطر بين أركان السلطة جنحت باتجاه خطير لسببين اثنين. الأول، حدّة الانقسامات الداخلية وشدّ العصب واستغلال الشوارع. أما السبب الثاني والأبرز، فمرده إلى تزامن الأزمة مع لحظة اشتباك إقليمي – دولي يبدأ على جسر الرينغ وسط بيروت ولا ينتهي على جسور بغداد.

هذا الاشتباك (أو التفاوض العنيف) دفع بالسلطة الأقوى والأذكى والأدهى، أي السلطة العميقة، للانتقال إلى الخطة البديلة، وأخذ زمام المبادرة والتحضير للمواجهة المباشرة. لذلك، قامت بإلغاء عقد الشراكة المصلحية، التي كانت أشبه بمساكنة ظرفية، لتفرض مرشحها إلى رئاسة الحكومة العتيدة.

قبض بعض السلطة، الذي كان يختبئ خلف الآخرين حتى الأمس القريب، على الدولة بأكملها، فارضاً نفسه لاعباً وحيداً على ساحة التسويات أو المواجهات المقبلة. فالسيناريو الذي تم اتباعه، خاصة لناحية اختيار رئيس الحكومة المكلف، مرده إلى أننا امام خيارين لا ثالث لهما، فتح الباب أمام التسويات الكبرى أو المواجهة المفتوحة بين المحورين الأساسيين الذين يتحكمان بمصير المنطقة.

إنها لعبة مصالح وتوازنات محلية وإقليمية واضحة وصريحة، أما واقع البلد المالي – الاقتصادي – الاجتماعي وهمّ الناس المعيشي، فمكانه في أسفل سلم الأولويات عند القوى الكبرى المتناحرة. وأما الحكومة المنتظرة الجاهزة المنتقاة بعناية كبيرة من رئيسها إلى آخر وزير فيها، والتي ستبصر النور خلال أيام، فقدّر لها أن تكون جاهزة لمهمتين اثنتين مرتبطتين بتطور الأحداث الإقليمية.

هذه الحكومة، المستقلة المتخصصة في ظاهرها، والممسوكة في قرارها السياسي بالكامل، ستكون إما حكومة مفاوضات وتطبيع بين المحور الإيراني والمحور الأميركي – الغربي – العربي، وإما ستكون حكومة مواجهة مفتوحة بين هذين المحورين. أعان الله الشعب اللبناني في كلتا الحالتين.

لا خيار ثالثاً يمكنه التأثير على هذه المعادلة المعقدة القائمة، إلّا إذا اسقط الناس الحكومة، المقبلة على بساط ريح عجمي. هذا الخيار لن يكون سهلاً على الإطلاق، خاصة في ظل تفاقم الأزمة الراهنة وتدهور الأوضاع المالية والمعيشية. فهل ستفعلها الثورة؟ الجواب سيكون في العام 2020.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها