سام منسّى

الجمعة ٢٧ تموز ٢٠١٨ - 08:38

المصدر: الحياة

سورية: تفاهم أم رضوخ واستسلام؟

يتردد كثيراً تعبير «المعادلة الروسية – الأميركية – الإسرائيلية» أو «التفاهم الروسي – الأميركي- الإسرائيلي»، لا سيما بعد تشجيع للنظام السوري ليحسم معركة الجنوب على وقع ضمانات روسية بإبعاد إيران وميليشياتها مسافة 80 كيلومتراً عن الحدود مع إسرائيل.

إن سيطرة النظام على جنوب سورية نتيجة هذه المعادلة، يؤشر إلى بداية نهاية الحرب في سورية بعد سيطرة النظام على المدن الرئيسة من حلب في الشمال إلى درعا في الجنوب.

قد تعتبر معركة الجنوب في الشكل والمنحى الذي أخذته، أهم محطة في الحرب الدائرة منذ العام 2011، تفوق أهميتها سقوط مدينة حلب. فمعركة الجنوب والمواقف الدولية والإقليمية منها، أظهرت وقائع عدة بعضها كان معلوماً والبعض الآخر كامناً، لعل أهمها ما صدر عن واشنطن وتل أبيب من مواقف حول الشأن السوري بعامة والنظام بخاصة.

إلا أن ما سمي بالمعادلة أو التفاهم المذكور، يحتاج مزيداً من التمعن في فحواه كما التروي في التعويل على نتائجه لجهة نهاية الحرب السورية، بالشكل الذي سوف ترسو عليه التسوية، إذا صح أن ما يجري اليوم هو تفاهم وتسوية تحفظان مصالح الأطراف المعنية وليس استسلاماً لطرف أمام آخر، أدى إلى فرض عودة «النظام السوري» بواسطة القوة المفرطة.

إن الحديث عن وجود «تفاهم» أو «معادلة» وراء حسم معركة الجنوب في سورية، تحول دونه وقائع عدة أبرزها ما يأتي:

أولاً: لا يمكن التسليم والبناء فقط على المواقف الإسرائيلية المعلنة. فالقول إن إسرائيل مرتاحة وراضية عن الوجود الروسي في شكله الراهن منذ البداية ليس بديهياً. إن مراجعة دقيقة لمواقف خبراء وسياسيين وأكاديميين إسرائيليين، تشير إلى أن موسكو لم تنسق مع تل أبيب انخراطها العسكري في الحرب، وأن إسرائيل واجهت هذا التطور الأمني كأمر واقع، وحاولت منذ اليوم الأول العمل على احتوائه والتعايش معه والإفادة منه قدر المستطاع. إن الزيارات الثماني التي قام بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى موسكو خير دليل على التباين بين الدولتين على أكثر من صعيد، ولو كان ثمة تفاهم وتنسيق بينهما لما احتاج الأمر إلى هذا العدد من الزيارات في خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً.

في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن منسوب الثقة لدى المسؤولين في إسرائيل منخفض تقليدياً حتى مع الحلفاء، فكيف الحال أزاء دور روسي ملتبس متحالف مع إيران في سورية كما في أكثر من ملف في المنطقة، على رغم أن روسيا تحاول إظهار دورها على أنه دور الوسيط « النزيه» الممسك بمفاصل اللعبة الدائرة بين إيران وإسرائيل.

من جهة ثانية، تدرك إسرائيل دور النظام السوري في زمن الأب والابن معاً، في تعزيز نفوذ إيران في لبنان منذ ثمانينات القرن الماضي، وفي سورية لا سيما مع تولي الابن سدة الرئاسة. اليوم، باتت إسرائيل التي تواجه ترسانة صواريخ حزب الله في لبنان، أمام جبهة جديدة في سورية لعلها أخطر وأكثر شراسة.

أمام هذا الواقع، يصعب على المراقب أن يفسر أو حتى يفهم عدم وعي إسرائيل لمسؤولية نظام الأسد في تمكين إيران من التمدد في لبنان وسورية، والمراهنة مجدداً على قدرته في إبعاد إيران وميليشياتها عن الحدود بين البلدين والمحافظة على الهدوء الذي تميزت به منذ العام 1974، إلا إذا تبنينا نظرية المؤامرة التي تقول بوجود تفاهم بين إسرائيل وإيران وتقاطع مصالح، وأن خشية إسرائيل من الوجود الإيراني ما هي إلا غطاء لسياسات خفية مختلفة.

أخيراً، ما يدعم التشكيك بوجود تفاهم وبفعاليته على المديين المتوسط والبعيد، هو أن تكون إسرائيل قد رضخت للأمر الواقع وقبلت بضمانات روسية غير مدعومة بقدرة موسكو على لجم إيران في سورية أو رغبتها في ذلك، لأن تل أبيب، على رغم تفوقها العسكري الأكيد في الإقليم، عاجزة عن القيام بعملية عسكرية كبيرة ضد الوجود الإيراني في سورية ولبنان، لا سيما في ظل تشكيكها بتلقي دعم أميركي وغربي جدي لعملية كهذه، وسط وجود عسكري روسي في سورية لا يستهان به.

تعي إسرائيل حجم التردد الأميركي في مواجهة روسيا وإيران في سورية، ما يحدّ من قدرتها العسكرية على الحسم، فاقتصرت تدخلاتها على الضربات الجوية التي قامت وتقوم بها ضد إيران وميليشياتها في سورية مع إدراكها أن إيران قادرة على امتصاص أثر هذه الضربات.

في المقابل يستحيل على إيران أن تفرط باستثمارها السياسي والعسكري وحتى الاقتصادي- الاجتماعي في كل من سورية ولبنان، لأن ثمن خروجها أو انكسارها في سورية قد تصل كلفته إلى حد سقوط النظام في طهران.

إضافة إلى ما سبق، سينتج عن هذه المعادلة اشتباكات محدودة متواصلة يصعب في بعض الأحيان السيطرة عليها، وقد تتفلت إلى حد اندلاع نزاع كبير أو حرب إقليمية واسعة.

ثانياً: مثلما يصعب التعويل على مواقف إسرائيل ونواياها وقدرة روسيا كما بيّنا أعلاه، يصعب كذلك البناء على مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وسياساته المتبدلة والمزاجية.

إن الأشهر الـ19 من ولاية الرئيس الأميركي لم تبدد الشكوك حول تراجع واشنطن أزاء قضايا المنطقة وتخليها عن سورية. فقراءة الموقف الأميركي من الحرب السورية تؤكد مرة جديدة أن ترامب لن يكون أقل تردداً حيالها أو أكثر حزماً.

السياسة الأميركية قبل قمة هلسنكي (والتي جاءت مخزية وغير مسبوقة لجهة أداء الرئيس الأميركي) وخلالها وبعدها، حسمت التسليم ببقاء نظام الأسد وأقرت بالهيمنة الروسية على سورية، على أمل أن تتمكن موسكو من تحجيم الدور الإيراني فيها والحؤول دون تهديد أمن إسرائيل. ولعل هذه النتيجة عززت المخاوف الإسرائيلية من التردد الأميركي المستمر منذ عهد باراك أوباما، إنما بأداء مختلف على طريقة ترامب.

أظهرت قمة هلسنكي ثلاثة مشاهد أكثر خطورة من سياسة التردد والانكفاء الأميركية، الأول هو الفصام بين الرئيس الأميركي وإدارته وخلافه الحاد مع الديموقراطيين كما مع رموز من الحزب الجمهوري، والثاني غياب أي سياسة أميركية تجاه المنطقة لا سيما سورية، والثالث عدم امتلاك الرئيس الأميركي ولو ملامح استراتيجية لمواجهة ممارسات روسيا المسيئة للولايات المتحدة، كما في أكثر من منطقة في العالم.

أخيراً ولتكتمل هذه المراجعة، لا بدّ من افتراض وجود تفاهم روسي- أميركي- إسرائيلي حول سورية والمنطقة ونجاح هذا التفاهم. والسؤال الذي يطرح هنا هو حول مستقبل دول المشرق العربي في ظل تسليمها للمحور الروسي- الإيراني واستمرار الانكفاء الأميركي والغربي عنها، ونقول دول المشرق العربي لأن دول الخليج العربي لها خصوصيتها وهمومها، كما أن شمال أفريقيا لديه ما يشغله أيضاً.

أي مستقبل ينتظر دول المشرق لا سيما سورية والعراق ولبنان، والتي تواجه معضلتين متلازمتين هما عودة النازحين والمهجرين وإعادة الإعمار التي من دونها لا عودة متاحة للنازحين؟

السؤال الأكثر إلحاحاً في ظل التخلي الغربي واستمراره، هو من يتولى إعادة الإعمار، وما هو الإعمار المقصود؟ هل يقتصر على البنى التحتية من مياه وكهرباء وطرقات ومدارس ومستشفيات؟ أم أن إعادة الإعمار المطلوب هو بالمعنى الواسع أي الإعمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي؟ وسواء كان هذا او ذاك، أي نموذج ينتظر هذه الدول؟

إذا تحدثنا عن إعادة البناء السياسي، ما سوف يتراءى لنا اولاً هو النموذج الذي شهدناه على مدى سنوات الحرب في سورية، وعماده القمع والاعتقال والتدمير الممنهج والتهجير، والتسويات المبنية على الاستسلام وإعادة إحياء الاستبداد.

أما إذا تحدثنا عن إعادة الإعمار الاقتصادي، فسوف تظهر أمامنا أوليغارشية روسية وأخرى إيرانية متحالفة مع رأس مال محلي متوحش وفاسد مستعد لكل السيناريوات السياسية والاقتصادية، كما الصفقات والرشى والسمسرات.

هذا لا يعني أن الغرب منزه عن الفساد والفاسدين، لكن على رغم ما عانينا ونعاني من التخلي الغربي عن القيم والأخلاق في أدائه ومواقفه وممارساته، يبقى دور المؤسسات فيه محورياً، والرأي العام قادراً على المحاسبة والقضاء فعالاً، وتداول السلطة محترماً.

إن الغرب لا يزال يمارس سياسة النعامة ويستسهل اعتماد تلفيق تسويات النزاعات وتلزيمها، عله ينجو بنفسه من تداعياتها. هذه السياسة كانت وراء الكثير من مشكلات المنطقة، ولن تؤدي مستقبلاً إلا إلى مزيد من مكونات النزاعات الأكثر خطورة مما هي عليه اليوم. بالمحصلة النهائية، في وجود تفاهم أو عدمه، مستقبل المنطقة قاتم ينقلها من الاستبداد الخفي والفساد المتخفي إلى الاستبداد المعلن والفساد العلني على مرأى المجتمع الدولي ومسمعه.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها