الثلاثاء ١٣ شباط ٢٠١٨ - 08:32

المصدر: المدن

عبس: حكاية نفط أيضاً؟

قيل كثيراً عن مشاكسات القيادي السابق في التيار الوطني الحر زياد عبس داخل التنظيم، وعن دور تلك الاشكالات في قرار طرده من التيّار. لكنّ، هناك أيضاً “شؤوناً نفطيّة”، يبدو أنّها أعمق من مشكلة مختار الأشرفيّة التي تم تداولها إعلاميّاً على أنها بداية أسباب طرد عبس من التيار.

تلزيم المسح البري
في العام 2013 كان لبنان على موعد مع إطلاق أعمال المسح الجيوفيزيائي البرّي، وهي أعمال المسح التي من المفترض أن تتم من الجو لمساحة 6000 كلم2 من الأراضي اللبنانيّة، بالإضافة إلى الجزء الانتقالي بين البر والبحر.

يتيح هذا المسح الحصول على معلومات مهمّة و”ثمينة” تسمح بتقييم مخزون النفط والغاز على البر اللبناني، وتُباع عادةً بمبالغ كبيرة للشركات الدوليّة المهتمّة بدراسة هذا المخزون، قبل القيام بأي خطوات استثماريّة. قرّرت يومها السلطة ابقاء العمليّة تحت إشراف وزارة الطاقة والمياه، وإبعادها عن نطاق عمل هيئة إدارة قطاع البترول، من دون أن يتضح في ذلك الوقت السبب.

شركة وسيطة وعقد مشبوه
تم تلزيم هذه الأعمال أخيراً إلى شركة أميركيّة تُدعى نيوس تعمل بالشراكة محليّاً مع وكيل لبناني بإسم شركة بتروسيرف ش.م.ل. وبتروسيرف ليست سوى شركة وسيطة أسّسها عبس قبل سنة واحدة فقط، لتنال هذا العقد الثمين، بقيمة 7.8 مليون دولار، بالوكالة عن الشريك الأميركي.

تم التلزيم من دون استدراج عروض ولا مناقصة علنيّة، أي عبر عقد بالتراضي. مع العلم أنّ عبس كان يحتفظ في ذلك الوقت بدوره القيادي في التيّار، بينما كان جبران باسيل وزير الطاقة والمياه.

في الواقع لم تكن بتروسيرف سوى واحدة من مجموعة أكبر من الشركات الوهميّة اللبنانيّة التي تأسست على عجل في تلك الحقبة، لتدخل في “ائتلافات” مع شركات أجنبيّة كطريقة للسمسرة والوساطة. وقد تم استعمال هذا الأسلوب، سواء أكان للحصول على عقود معيّنة مثل حالة عبس، أم للتأهّل لدورة التراخيص للتنقيب عن النفط واستثماره (مثل شركات أبيكس وبترولاب).

لكن الغريب هو هويّة الشركة الأميركيّة نفسها، التي يقول الخبير النفطي نقولا سركيس إنّ أقل ما يقال عنها هو أنها لا تقف في الصفوف الأمامية بين الشركات العالمية المختصة في هذا المجال. أمّا رئيسها والمساهم الأكبر في رأسمالها فلم يكن سوى موزّع للمواد الغذائيّة في لندن.

عبس: المقاول والشاري وما بينهما
المطلوب إذاً 7.8 مليون دولار لإنجاز العمليّة. هنا، كان السؤال الأهم: من سيدفع للمقاول هذا الثمن؟ بالتالي، من سيحصل على الداتا بعد المسح ويربح من بيعها؟

قمّة الغرابة كانت تحديداً في غياب إرادة الدولة تمويل هذه العمليّة وتملّك الداتا بمفردها، إذ إنّ قيمة داتا المسوحات والربح عند بيعها لاحقاً للشركات الدوليّة أكبر بكثير من هذه الكلفة. فقد بيعت “داتا” المسح البحري مثلاً للشركات الأجنبيّة بـ135 مليون دولار، وفق الوزير السابق وائل أبو فاعور.

وكالعادة في عمليّات المقاولة في لبنان يُترك الفراغ لمن يشغله ويستفيد منه. فقد تأسست فوراً شركة استثماريّة ذات غرض خاص لتمويل العمليّة بإسم Geo Data World، هدفها تمويل عمليّة المسح البرّي مقابل الاستحصال على الداتا والاستفادة من الثمن عند بيعها. بمعنى آخر، تدفع الشركة الاستثماريّة أتعاب المسح البرّي بدلاً من الدولة، ثم تمتلك الداتا وتربح منها بدلاً من الدولة أيضاً. بينما لا تملك الدولة سوى حصّة صغيرة من مردود بيع الداتا.

من أسّس الشركة؟ شركة بيتروسيرف أيضاً. هكذا، أصبحت بتروسيرف الشريك الوسيط مع الشركة الأميركيّة التي تقدّم خدمة المسح لتستفيد من ربح مقاولاتها، وفي الوقت نفسه المؤسس الوسيط للشركة الاستثماريّة التي ستتملّك الداتا من المسح وتبيعها لتستفيد من هذا الربح أيضاً.

هنا استفادت الشركة من كل تلك الأدوار، رغم إنعدام أي دور أو خبرة نفطيّة لها، باستثناء دور السمسار (أو لنقل الوسيط) الذي لعبته في كل تلك المراحل.

ماذا تقول بتروسيرف؟
اتصلت “المدن” بعبس للتأكّد من دقّة المعلومات. لكن عبس أحالنا إلى المهندس المسؤول في شركة بتروسيرف مارك أيوب، الذي أكد جميع المعلومات كما وردت: تأسّست بتروسيرف في العام 2012. نالت العقد بالوكالة عن نيوس في 2013، بعقد تمّ بالتراضي ومن دون أي استدراج عروض أو مناقصة علنيّة. كما أسّست بتروسيرف الشركة الاستثماريّة على النحو الذي بيّناه.

برّر أيوب العقد بالتراضي بكون نيوس الشركة الوحيدة التي عرضت اتمام المسح بخمس طرق مختلفة. ولم يوضح كيف تم التأكّد من عدم وجود خيارات أنسب، إذا لم تقم الدولة أساساً بفتح الباب علناً أمام جميع الشركات الأجنبيّة للاشتراك في مناقصة شفّافة.

وبرّر أيوب انشاء الشركة الاستثماريّة وتحويل منافع الداتا لمصلحتها بعدم توافر الأموال لدى الدولة لذلك، مع أنّ المبلغ المذكور زهيد نسبةً إلى حجم مشاريع دولة ومقارنةً بالأرباح التي كان يمكن أن تحقّقها الدولة بدلاً من المستثمرين في هذه العمليّة، وفي فترة قصيرة. كما لم يوضح أيوب حصّة الدولة الآن من بيع الداتا ولا الجهات التي قامت بشرائها.

لكن أين أصبحت الداتا اليوم ومن قام بشرائها؟ كم ربحت الشركة الاستثماريّة من بيع هذه الداتا، وكم كانت الدولة لتربح من هذا البيع؟ وهل كان مصير بيع داتا المسح البرّي شبيهاً بمردود بيع داتا المسح البحري البائس، الذي لم يبلغ لغاية 2016 سوى 30 مليون دولار من أصل 137 مليون دولار التي ذكرناها نقلاً عن أبو فاعور؟ مع العلم أنّ الدولة اعتمدت في المسح البحري نموذجاً تجاريّاً شبيهاً بنموذج المسح البرّي.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها