الخميس ٣٠ كانون الثاني ٢٠٢٠ - 10:28

المصدر: الشرق الأوسط

عن سوريالية الانهيار والإصرار على انتهاك الكرامات

رتيباً كان الجو، غابت النكات والقفشات عن القاعة العامة. كان الحضور باهتاً وكذلك الوجوه. يقطع الصمت بعض الوشوشات عن كيفية الوصول، والبعض يخرج ويعود لتسقط أخبار الخارج وأخبار الثورة التي تحاصرهم، وكان الخطباء، وهم قلة على غير العادة، يعرفون أن لا أحد يعير الكومبارس أهمية في تلك الكوميديا السوداء التي لُعِبَت بإتقان على خشبة البرلمان اللبناني طيلة 3 ساعات الاثنين الماضي.
وحده الرئيس نبيه بري كان النجم المطلق، ارتاح عندما حضرت «ملائكة» الرئيس الحريري الغائب فأمّنت النصاب بتأخير نحو 40 دقيقة! والنصاب كان لجلسة إقرار الموازنة العامة لعام 2020. أراد بري اجتماع المجلس بأي ثمن: «ما كانوا يخلونا نجتمع، اليوم عملنا السبعة وذمتها حتى نجتمع»… وتابع مخاطباً النواب: «ما حدن يطلع لأن ما في يرجع، في هذه الجلسة سنقر الموازنة العامة». واستمرت مسرحية الموازنة التي حازت تأييداً فاتراً بلغ 49 نائباً؛ أي أكثر بقليل من ثلث أعضاء البرلمان، لكن الجلسة كانت «تاريخية» من حيث السوابق… وأهم السوابق فقدان ثقة الناس، وهنا يكمن النصاب الحقيقي.
لم يأبه رئيس البرلمان ورهط من النواب الذين لبّوا الدعوة، إلى أن الاجتماع بأي ثمن، كسر كل الروابط مع المواطنين، وكرّس الطلاق بين السلطة التشريعية والناس، لأنه لو كان هؤلاء يمثلون فعلاً مصالح من اقترع لهم، لما كانت هناك حاجة لتحويل البرلمان ومحيطه في وسط العاصمة إلى مستوطنة مسلحة تم تزنيرها بجدران من كتل خرسانية، محروسة بالأسلاك الشائكة وبنادق «اللواء الحادي عشر» مع فوج مجوقل وآخر من المغاوير، ووحدات مكافحة الشغب من الأمن الداخلي والقوة الضاربة في جهاز المعلومات… إلى الحضور الكثيف لعناصر الأجهزة الأمنية، ولما كان هناك كل هذا التجاهل لزنار المتظاهرين المحتجين من الشباب والنساء الذين رابطوا حول كل مداخل البرلمان التي شهدت احتكاكات متواصلة مع القوى الأمنية.
كل ذلك من أجل تهريب موازنة حكومة مخلوعة كانت قد قررت في ليل تصفير العجز (…)، فحذفت كل موجبات الدولة للضمان الاجتماعي، مما يعني فقدان آخر أحزمة الحماية للناس، وشطبت كل توظيف استثماري، مما يعني «صفر وظائف» في بلد بلغت فيه بطالة الشباب والخريجين نحو 50 في المائة، وأمرت المصرف المركزي بسداد فائدة الدين العام عن السلطة بقيمة 4500 مليار ليرة؛ أي نحو 3 مليارات دولار بالسعر الرسمي، وكأن ذلك لا يفاقم العجز والدين، وأرجأت كل الإصلاحات المطلوبة إلى عام 2021، والأخطر أنها فتحت الباب أمام بيع القطاعات المربحة كالهاتف الجوال، وازداد الحديث عن تسييل الذهب، مما يكشف عن أن هناك من رموز نظام المحاصصة الطائفي من يتجهز لاستكمال المَنْهَبَة غير المسبوقة! بعبارة أخرى؛ إنها سوريالية الانهيار الكامل تؤكدها أرقام موازنة تجاوزتها التطورات من ألِفها إلى يائها؛ إنْ من حيث تضخمها بعدما تراجع الناتج الوطني نحو 40 في المائة، أو من حيث الدلالات والتوجهات مع واقع البلد بعد الثورة!
الرئيس حسان دياب لم يقلّ حضوره نجومية وإنْ جلس وحيداً في مقاعد الحكومة، مكتوف اليدين لثلاث ساعات، يعرف أن دوره تأمين الغطاء الحكومي، فقام بهذا الدور كما تمَّ رسمه… وعندما تحدث قليلاً قال: «لو كان موقفنا عدم تبني الموازنة ما كنا لنحضر»… وفاتَه أن هذا الكلام لا يمكن صرفه، فمجلس الوزراء كي يتبنى الموازنة، فإن ذلك يكون بالتصويت والموافقة بثلثي أعضاء الحكومة بعد نيلها الثقة، وكل هذه الأمور ليست متوفرة! ورغم أنه استشار كثيرين، فإنه فاتَه أنه لا يجوز لمجلس النواب إقرار الموازنة في غياب حكومة مكتملة، وضعتها أو وافقت عليها، ومن غير الاستماع إلى رأيها، ومن غير أن تعرض ما تعرف بـ«فذلكة الموازنة» التي من المفترض تضمينها كل أوجه السياسة المالية والاقتصادية والاجتماعية للدولة.
بدا المجلس «سيد نفسه»، والحكومة التي لم تقل شيئاً عمّا يواجه لبنان من تحديات، عليها أن تنفذ سياسات مرسومة. في المقابل؛ يتعمق الانقسام ويتسع الشرخ بين مركز السلطة والمواطنين، ولم يعد مقنعاً ما يطلق من فذلكات «دستورية» غبّ الطلب حول شرعية ومشروعية ما جرى، فلا الجلسة دستورية؛ ولا الحكومة دستورية، ولا الموازنة التي تم إقرارها كان يجوز العودة إليها بعدما أسقطها الشارع يوم أسقط الحكومة التي تقدمت بها! وإن ذكر الرئيس بري أن «حق التشريع مطلق للمجلس النيابي» متجاهلاً الدستور، لأنه مع حضور النص الدستوري ووضوحه، يبطل الاجتهاد وتسقط التفسيرات، ومنها ما قيل عن وضع التفسير في خدمة الناس، أي أن المشرّع فاتته مصالح المجموع، فجاء نواب انتخبوا وفق قانون متصادم مع الدستور زوّر إرادة المقترعين، مدّعين الحرص على الشأن العام.
قالوا «الضرورات تبيح المحظورات» وذهبوا إلى آخر الشوط، ومن أيّد كان واضحاً وصريحاً في المجاهرة بعدائه للناس وضد الهواء النقي الذي حملته الثورة، ومن حضر وأمّن النصاب ثم رفض أو امتنع كان مراوغاً مناوراً أعطى جلسة الموازنة شرعية الانعقاد وكشف عن عمق عدائه لمطالب اللبنانيين، وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن تلك الكوميديا السوداء تطلبت أعلى استنفار عسكري وجدران عار وكراهية، تركت صورة لن ينساها الناس لما رافقها من قمع وحجز حريات، فإن النظرة الأوسع تثبت أن كل ما يشهده لبنان هو التدقيق بمدى التزام التحالف السياسي بتفاهمات جديدة، وهنا نذكر أن «حزب الله» أعلن على الملأ أنه حتى من هم خارج الحكومة عليهم دعمها، مما يؤكد أن ما جرى الاثنين قد يكون لاجتماع البرلمان مستقبلاً لمنح الحكومة الجديدة الثقة.
اليوم ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن الضغط الأمني سيستمر بأشكالٍ مختلفة من أجل فض ساحات الاعتصام؛ بدءاً من ساحة الشهداء في بيروت لكسر رمزيتها، ولا يغير في الأمر شيئاً نفيُ وزير الداخلية أنه لم يصدر قراراً بذلك، فهذه الرغبة قديمة بدأت بمنع إقفال الطرق، وتستكمل الآن لإنهاء الاعتصامات من أجل العودة بالوضع إلى ما كان قبل 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. يتجهون لفرض هذا المنحى بالقوة، تأكيداً لرفضهم الاستماع للناس، وإصرارهم على استمرارية نظام المحاصصة. وبهذا السياق جاء بيان دعم حكومة المستشارين من القمة الروحية التي طالبت بإنهاء التحرك ومنح حكومة دياب فرصة للعمل (…)، وبدأ المرتبطون بالخارج وأتباعه والمتسلقون يروجون الافتراءات، كالزعم أن ثورة الشعب اللبناني تعوق «نضال» رافضي «صفقة القرن»! باختصار يكثّفون الضغوط للعودة إلى زمن انتهاك الكرامات وسيلةً لمحو الثورة وآثارها، وهم لم يتعظوا بأنه لم يعد لدى الأكثرية من الشعب ما تخسره، لكن التحدي كبير، ويفترض أن تمتلك ساحات الثورة برنامجاً بديلاً للإنقاذ، وبلورة أعلى مستوى من التنسيق، وأشكال التحرك التي تضمن الفاعلية، في ظرف لم يعد سراً فيه أن حكومة الظلال لن تتأخر عن استهداف التحرك الشعبي والحريات العامة.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها