الأربعاء ١٠ نيسان ٢٠١٩ - 11:15

المصدر: الجمهورية

لا مسؤولية المسؤولين

قالها أفلاطون، السياسة هي فن تعليم الفضيلة لعامّة الشعب. نعم إن الطبقة السياسية التي تحكم في الأنظمة الديموقراطية هي نخبة يختارها الشعب لتُدير أموره وتُحسّن مستوى معيشته من خلال أخذ القررات الصائبة وإعطاء قدوة للمواطن بالأفعال والقول وهذا ما يُسمّى بالمسؤولية الإجتماعية.

ما كنا ننتظره من المسؤولين السياسيين هو خطاب عام حول مسؤولية إجتماعية جديدة ناشئة من وجود مخاطر على الكيان اللبناني بفعل الفساد وما له من تأثير على المالية العامة. لكن للأسف نرى أن الخطاب العام مُغاير لما هو مطلوب لا بل أكثر يؤدّي إلى تردّي الوضع أكثر.

منذ فترة ونحن نشهد خطابات تفتقر إلى أدنى مستويات المسؤولية الإجتماعية، خطابات جديدة أقلّ ما يُمكن القول عنها أنها خُطابات هدّامة! نعم هدّامة تنسف المالية العامة والليرة اللبنانية وحتى الكيان اللبناني. كيف يُعقل أنه في ظل عمل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على تأمين إستقرار مالي وإقتصادي، أن يظهر إلى العلن تصريحات وإنتقادات غير مبررة تضرب هذا الإستقرار بالهجوم على مصرف لبنان وعلى حاكمه؟

لن أدخل في دوافع الهجومات والتصريحات المُتكرّرة التي لا منفعة منها، بل سأترك الحكم للشعب، لكني سأهتم أكثر في معالجة بعض النقاط المُستخدمة في هذه الخطابات الهدّامة.

مصرف لبنان بحسب قانون النقد والتسليف هو مؤسسة مُستقلّة تتمتّع بإستقلالية إدارية ومالية، وبالتالي فإن أموال المصرف مفصولة كلياً عن أموال الدوّلة كذلك الأمر بالنسبة الى الإدارة. وبمعنى أخر، أعطى قانون النقد والتسليف للمصرف المركزي حرية إقتناء أموال غير المال العام بهدف تطبيق سياسته النقدية مما يُظهر أن أموال المصرف المركزي هي فقط بجزء منها مال عام.

وبحسب قانون النقد والتسليف لا يُمكن لمصرف لبنان أن يُحمّل الدوّلة ديوناً. جلّ ما يُمكن فعله في هذا الشق التأثير على الإستثمارات في الإقتصاد وعلى هذا الصعيد قام مصرف لبنان، وبالتعاون مع المصارف التجارية بدعم الإقتصاد اللبناني من خلال قروض مدعومة للقطاعات الإنتاجية ومن خلال قروض سكنية.

كيف يُمكن إذا تحميل مصرف لبنان تداعيات السياسات المالية للحكومات المُتعاقبة؟ سياسات إعتمدت الإنفاق فوق قدرات الدوّلة وأدّت إلى خلق عجز يحمله لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية وحتى الساعة. خلال كل هذه الفترة كان مصرف لبنان ومن خلفه المصارف اللبنانية يدعم المالية ويُموّل العجز.

الفوائد التي تدفعها الدوّلة اللبنانية على دينها العام هو نتاج العرض والطلب على هذه السندات. وليس بجديد القول إن الأداء السيئ في إدارة الدولة دفع وكالات التصنيف الإئتماني إلى خفض تصنيف لبنان وبالتالي بدأت الأسواق بطلب فائدة أعلى على السندات السيادية. أليست الأموال التي تُقرضها المصارف إلى الدوّلة هي جزء من أموال المودعين؟

بالطبع لم يكن أمام مصرف لبنان إلاّ أن يُدّعم إحتياطه من العملات الأجنبية حتى لا يعيش لبنان ما عاشه في العام ١٩٨٣ والعام ١٩٩١. ومع عجز في الميزان التجاري يولّد حكمًا عجز في ميزان المدفوعات أصبحت الهندسات المالية الخيار الوحيد الموجود. هذه الهندسات وبحكم فصل مال مصرف لبنان عن مال الدوّلة، لم تُحمّل خزينة الدولة أي كلفة، وهذا أمر بديهي وكل قول غير ذلك يعني عدم معرفة القائل بقانون النقد والتسليف.

السياسة النقدية التي إعتمدها مصرف لبنان منذ منتصف تسعينات القرن الماضي أثبتت من دون أدنى شكّ فعّاليتها بدليل أن سعر صرف الليرة اللبنانية مُستقرّ منذ العام ١٩٩٧. هذا الإستقرار يُثبت أن السياسة النقدية خدمت الهدف الأسمى للمركزي وهو الحفاظ على الليرة اللبنانية ولكن أيضًا حققت الهدف الثاني أي الحفاظ على المصارف اللبنانية من خلال الرقابة عليها وتنظيمها.

السياسة النقدية المُتبعة من قبل مصرف لبنان ما كانت لتنجح لولا تعاون المصارف اللبنانية وإلتزامها القوانين والمعايير الدوّلية. وبالتالي الهجوم على السياسة النقدية هو هجوم على المصارف اللبنانية وضرب للإستقرار الإجتماعي، المالي والنقدي.

ويُلزم قانون النقد والتسليف حاكم مصرف لبنان رفع تقارير إلى وزير المال عن وضع المصرف المركزي وميزانيته والسياسة النقدية التي يتبعها. وقد صرّح وزير المال العام الماضي أن هذه التقارير تُرفع إليه في مواعيدها.

وللعلم تم نشر ميزانيات مصرف لبنان في الجريدة الرسمية على الشكل التالي:

ميزانية ٢٠١٧: تم نشرها في الجريدة الرسمية رقم ٢٩ تاريخ ٢٨/٦/٢٠١٨؛

ميزانية ٢٠١٦: تم نشرها في الجريدة الرسمية رقم ٢٩ تاريخ ٢٩/٦/٢٠١٧؛

ميزانية ٢٠١٥: تم نشرها في الجريدة الرسمية رقم ٣٦ تاريخ ١٤/٧/٢٠١٦؛

ميزانية ٢٠٠٦ إلى ٢٠١٤: تم نشرها في الجريدة الرسمية رقم ٤ تاريخ ٢٨/١/٢٠١٦.

إذًا لما القول إنه لا ترسل تقارير من مصرف لبنان إلى وزير المال؟ ما الهدف من ذلك؟

إن ضرب القطاع المصرفي بشقيه (مصرف لبنان والمصارف التجارية) يعني ضرب الكيان اللبناني لأن القطاع المصرفي هو الهيكل الذي يحمي لبنان من السياسة المالية المُتبعة ومن العقوبات الغربية، ومن التخبّط السياسي، ومن الفساد المُستشري في أجهزة الدوّلة.

إن التصريحات اللا مسؤولة تنسف كل ما قاله أفلاطون عن مزايا النخبة التي تحكم والمسؤولية الإجتماعية التي يجب أن يتمتّعوا بها. وجعلت من المنابر أداة لضرب مصلحة المواطن الذي إئتمن النخبة على إدارة الدوّلة والحفاظ على مصالحه. أليس الأجدى بهذه النخبة الإهتمام أكثر بمصالح الناس من خلال العمل على تسريع وضع الموازنة والتأكد من إجراء الإصلاحات اللازمة فيها لضمان إستمرارية الدوّلة.

في الختام نستغرب هذه اللا مسؤولية التي تضرب القطاع المصرفي ومصالحه من خلال التهجّم على مصرف لبنان لما له من علاقة عضوية تربطه بالمصارف التجارية على كل الأصعدة.

صدق القول “رحم الله امروءاً عرف حده ووقف عنده”!

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها