سام منسّى

الأثنين ٤ تشرين الثاني ٢٠١٩ - 10:29

المصدر: الشرق الأوسط

لبنان: استعادة الدولة ثم الإصلاح والبناء

بعد مرور أسبوعين على الحراك الشعبي غير المسبوق في تاريخ لبنان المعاصر، لا بدّ من الاعتراف أنه أسس حالة جديدة لن تتوقف، حالة قد تخفت لكنها ستبقى حكماً مستمرة.
فهو جمع شرائح اجتماعية متنوعة من كل الطوائف والمناطق، وأظهر نخبة متمثلة بشباب لبناني من الجنسين واعٍ ومثقف في خطابه، تميزوا بدقة إدراكهم لحقيقة الوضع، ولما يريدون لوطنهم، وبتصميمهم على مواصلة الحراك. وهزّ السلطة في لبنان، فبات على المسؤولين من أكبرهم إلى أصغرهم أن يأخذوا بعين الاعتبار دوره وقدرته على تغيير أدائهم.
أما الأحزاب السياسية، التي بقيت خارجه، وصلتها الرسالة أيضاً، وأدركت أنّ ما بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول) لن يكون كما قبله، وأن جميعها، التي أدينت أو لم تدن، أصبحت تحت مجهر المنتفضين. حتى «حزب الله»، الذي خوّن الانتفاضة، وانتقدها، وأرسل مواليه إلى ساحاتها لترهيب المحتجين بممارسات غير حضارية وغير أخلاقية، أصيب حتماً بمفاجأة لا يعرف راهناً كيف يواجهها، ولا يزال يدرس سبل احتوائها أو ردعها. وجاء خطاب حسن نصر الله في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) أصدق تعبيراً عن حال الارتباك والرغبة بالاحتواء قبل الانتقال إلى المواجهة.
السؤال الذي يطرحه الجميع اليوم هو ماذا بعد هذه الانتفاضة؟ الحراك اللبناني استخدم شعار احتجاجات «الربيع العربي»: «الشعب يريد إسقاط النظام»، لكن النظام في الدول العربية التي شهدتها كان له وجه، أما في لبنان، فهذا الوجه غير موجود، وليس هناك من تمثال لإسقاطه! الحراك فعلاً ضد النظام السياسي بأسسه وهيكليته وشبكاته كافة، ومهمته صعبة، خصوصاً لعدم وجود قيادة له، ولعدم وجود معارضة سياسية تدعمه بحكم التوافقية التي تسيّر الحياة السياسية. مهمته صعبة، طالما لم يتم وضع الأصبع على الجرح اللبناني النازف خلف الفساد والتدهور الاقتصادي والاجتماعي، وهو ازدواجية السلطة عبر وجود دولة داخل الدولة، ونشوء سلطة أقوى من السلطة الشرعية.
للإنصاف نقول، إن هذا الجرح سابق لعهد الرئيس ميشال عون، والازدواجية في السلطة بدأت في لبنان منذ عام 1969 مع منظمة التحرير الفلسطينية، وانتقلت إلى السوريين، ومن ثم إلى الإيرانيين ممثلين بـ«حزب الله». أي حديث عن حل للأزمة اللبنانية خارج معالجة هذا الجرح يبقى حلاً تجميلياً، كمثل الاتجاه إلى إعادة تكليف الرئيس سعد الحريري، تشكيل حكومة اختصاصيين وخبراء حياديين ونزيهين. فهل ستتنازل سلطة «حزب الله» عن مكاسبها للسماح بإعادة بناء الدولة في لبنان؟ هل ستساعد «لبنانية» الحزب على استقاء الدرس من هذا الحراك لإحداث تصويب ما في سياسته؟
يقول المراقبون إن هذا الأمر صعب التحقيق. فموقف الحزب مرتبط بموقف وسياسة ومصالح إيران بما يحقق الانسجام بين رؤيتها الاستراتيجية الثابتة، ورؤيتها التكتيكية للحياة السياسية اللبنانية. وقد أعلن المرشد الإيراني علي خامنئي عن الموقف بشأن ما يجري في لبنان والعراق، معتبراً الحراك الشعبي فيهما مؤامرة، وأن التغيير يجب أن يتمّ ضمن الأطر الدستورية، وهو العارف أن هذه الأخيرة ممسوكة في كلا البلدين بأيدي تابعة لإيران، أو قريبة مما يسمى «محور الممانعة».
في كلام خامنئي مؤشر لما سوف يقدم عليه «حزب الله»، وقد أعلن تشبثه بالتسوية القائمة على إمساكه بزمام السياسة الخارجية، وتحديد دور لبنان في العالم، وفي المنطقة، وإلصاقه بـ«محور الممانعة»، وسيطرته على الأمن في الداخل، وأمن الحدود، بينما ينصرف سائر أطراف التسوية إلى الاهتمام بشؤون حياة الناس. وللأسف نقول إن هذه التسوية لم تسقطها الانتفاضة ولا استقالة الحكومة، وطالما أن هذا الموضوع لم يُقارب، ويتمّ تجنبه والدوران حوله، فإن الأزمة اللبنانية بكل تشعباتها مستمرة، لا سيما الجانب الاقتصادي، جراء زج لبنان ضمن محور متهم بالإرهاب، وبمعاداة معظم دول العالم، ويواجه عقوبات اقتصادية حادة لا يتوقع أن ترفع قريباً.
ما هي الخيارات المتداولة أمام اللبنانيين للخروج من التأزم، وما هو موقف «حزب الله» المتوقع منها؟
الخيار الأول هو حلم تشكيل حكومة حيادية فعلاً من شأنها العمل على بناء الدولة عبر هدم ما بناه الحزب من سطوة على القرار في بيروت على مدى سنوات. لن يطلق «حزب الله» النار على نفسه ويقبل بهكذا حكومة.
الخيار الثاني هو حكومة جديدة من خبراء واختصاصيين تضع قانوناً انتخابياً جديداً تجري وفقه انتخابات نزيهة تحت إشراف المجتمع الدولي، وتعيد تشكيل الطبقة السياسية. من الصعب أيضاً أن يوافق الحزب على هذه الحكومة.
الخيار الثالث، هو حكومة مطعمة من سياسيين وخبراء تؤلف بشكل يعيد الأمور إلى نقطة الصفر بالنسبة إلى المنتفضين، ويتماشى مع مصالح الحزب.
الخيار الرابع والأقل رجحاناً هو حكومة مواجهة ذات لون واحد، عمادها «حزب الله» وحلفاؤه في لبنان. نحن إذن أمام طريق مسدود، ما لم تتغير الأحوال الإقليمية، وتحصل التسوية الكبرى بين واشنطن وطهران، هذا إذا لم تأت على حساب البلد الصغير بسبب قوة «حزب الله»، والخلل الحاصل في ميزان القوى الداخلي.
إنما، إذا كانت الجهات المناهضة لـ«حزب الله» ترغب فعلاً في الإفادة من هذه الانتفاضة الرائعة لمصلحة لبنان وشعبه، لعل المخرج في ظل الواقع الراهن يكمن في تجميع قواها لتشكيل سد منيع أمام تمدد الحزب وبقائها خارج السلطة دون الدخول في أي تسويات معها، وأن تكون حاضرة كقوة سياسية لبنانية وازنة مؤثرة في تسويات مقبلة قد تحصل في المنطقة.
المطلوب بوضوح هو عودة الرئيس الحريري إلى قواعده، دون أن تعتبر استقالته انتقاصاً من الطائفة السنية، بل عودة إلى حضن القاعدة الشعبية الأساسية التي قام عليها، والتي ترفع شعار استعادة لبنان، أي استعادة الدولة. الأمل أن يدرك الرئيس الحريري أنه طالما لا يوجد توازن قوى لصالحه، فالمشاركة ثانية في الحكم مع السلطة الحالية هو عبث وانتحار سياسي مجاني، وأن يدرك أيضاً أن التصرف، وفق ما كان سائداً قبل الانتفاضة، يعني عودتها بشكل أقوى وأخطر وأشرس.
في ظل موازين القوى الإقليمية والدولية الراهنة، المنطق الوطني السليم والعاقل هو في ترك هذه السلطة تحكم وتتحمل المسؤولية. فعندما تشعر أنها عاجزة عن مواجهة الانتفاضة، ومواجهة المجتمع الدولي، ومواجهة قوى أخرى وازنة في البلد، تبدأ مرحلة التفاوض على التسوية العتيدة، والبداية هي استعادة لبنان الدولة، وبعدها يأتي الإصلاح ومكافحة الفساد وتأمين مطالب المواطنين. الإصلاح والبناء من دون استعادة الدولة هو كلام في الفراغ وهدر للوقت والطاقات.
أي حكومة تعجز أن تحكم خارج ما تمليه السياسة الاستراتيجية الأساسية لـ«حزب الله» في المنطقة، وفي لبنان، ستكون غطاءً للوضع القائم ليس إلا، واستمراراً لحالة النكران والشواذ، اللهم إلا إذا أعاد الحزب النظر بسياساته، واقتنع بأهمية نأي لبنان عن نزاعات المنطقة، ورفع غطائه عن الفاسدين في صفوفه وصفوف حلفائه، لأنه وقاعدته لن يبقوا بمنأى عن مخاطر الأزمة الاقتصادية، على الرغم من مكابرة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في خطابه الأخير.
لن يخرج لبنان من أزمته الاقتصادية، بحلول تقنية رقمية، بل باستعادة الثقة مع المواطن، التي تتم بعودة الدولة والتوازن إلى حياته السياسية، ورجوعه إلى دوره الدبلوماسي التقليدي الوسطي غير المنحاز، لا في الإقليم، ولا خارجه.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها