سام منسّى

الأثنين ١٨ تشرين الثاني ٢٠١٩ - 08:16

المصدر: الشرق الأوسط

لبنان: القفز فوق الانتفاضة وإسقاط «الطائف»

مع دخول الحراك الشعبي اللبناني شهره الثاني، واستقالة حكومة الرئيس سعد الحريري أسبوعها الثالث، يبدو أن السلطة الحاكمة في لبنان لا تزال تهرب إلى الأمام، متجاهلة ليس مطالب المنتفضين فحسب، بل حقيقة أن البلاد سقطت فعلاً في الهاوية، ولم تعد تحتمل ترف التعالي والتسويف، ولا خطأ العودة إلى السياسات السابقة.
والأخطر أن هذه السلطة الممثلة اليوم برئاسة الجمهورية و«التيار الوطني الحر» و«حزب الله»، وربما «حركة أمل»، قد تكون تستغل الحراك وانكفاء القوى السياسية الأخرى لتغيير الصيغة، لأن أداءها يشي شكلاً ومضموناً بأنها تصوّب سهامها على «اتفاق الطائف» والدستور الذي أفضى إليه. في الشكل، مجرد تسمية الوزير السابق محمد الصفدي، لرئاسة الحكومة العتيدة، قبل الاستشارات النيابية، تعدٍ صارخ على الدستور اللبناني، إذ إن رئيس الجمهورية تخطى بذلك صلاحياته، كما حددها الدستور، وألغى دور المجلس النيابي، ضارباً بعرض الحائط حقيقة أن النظام اللبناني هو نظام جمهوري برلماني، وليس نظاماً رئاسياً. ويسعى الرئيس أيضاً، وحسب ما أعلنه في آخر مقابلة تلفزيونية له، إلى التوافق على التشكيلة الحكومية حتى قبل التكليف في انتهاك آخر للدستور، وتجاوز لصلاحيات الرئيس المكلّف ولدور المجلس النيابي أيضاً، لأن الرئيس المكلّف مدعو أيضاً، وفق الدستور، إلى إجراء استشارات نيابية ملزمة قبل التأليف.
ويأتي أيضاً الشرط الذي صدر عن أوساط رئاسة الجمهورية و«حزب الله»، إما الحريري وجبران باسيل معاً في الحكومة، وإما كلاهما خارجها، لينتقص من مقام رئاسة الحكومة، وهي ركن من أركان النظام السياسي توازي في أهميتها رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب. وما قصم ظهر البعير، هو أن الإعلان عن تسمية الصفدي، وعن موعد الاستشارات النيابية، جاء على لسان وزير الخارجية المستقيل وصهر الرئيس جبران باسيل، ولو بشكل غير رسمي، كما لو أنه بات وكيل رئيس الجمهورية والمرجعية في تشكيل الحكومات. يدرك الجميع طبعاً أن باسيل ليس سوى الناطق باسم المرجعية الأساسي، وهي «حزب الله»، فبعد تسمية رئيس الجمهورية، وطبعاً رئيس مجلس النواب، بات «حزب الله» اليوم هو من يسمي رئيس الحكومة، ليس هذا فحسب، بل من يضع أيضاً البيان الوزاري، وقد حدد السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير خطوطه العريضة: مكافحة الفساد، الانفتاح على سوريا وإيران، وفتح أسواق البلاد أمام الاستثمارات الصينية والإيرانية.
وللأمانة، نقول إن الرئيس الحريري ربما لم ينتبه لما يقوله الدستور، نظراً دخوله في مفاوضات حول التشكيلة الحكومية قبل تكليفه أو تكليف غيره، وأعلن أخيراً عن نيته منح الثقة لـ«حكومة الصفدي»، حتى قبل تكليفه رسمياً، وتشكيلها، والاطلاع على بيانها الوزاري!
ووسط كل هذه المخالفات، نادرة هي أصوات النواب الذين اعترضوا على التعدي على صلاحياتهم وعلى الدستور، في دليل حاسم على عدم صدقيتهم.
أما في المضمون، فهذه المخالفات الدستورية معطوفة على كل ما شهدناها سابقاً من بدع في عملية تشكيل الحكومات وعملها، من وضع آلية ومعايير لتأليف الحكومة، وفقاً للتمثيل النيابي (كمعيار باسيل القائل بحق كل أربعة نواب إنشاء كتلة وتمثيلها بوزير) إلى الثلث المعطل إلى اعتماد التوافقية، كل ذلك سعى إلى تحقيق الهدف الأكبر للانقلاب الذي أجراه «حزب الله» تدريجياً، وبالقانون، وهو إسقاط «اتفاق الطائف». وقد يكون الحزب وجد في الانتفاضة فرصة للانقضاض على هذا الاتفاق وصولاً إلى مؤتمر تأسيسي جديد يعكس مدى التغيير في موازين القوى المحلية، ويعيد إلى الرئاسة الأولى المارونية صلاحياتها على حساب دور رئاسة مجلس الوزراء السنيّة، لا سيما أن معركة الصلاحيات بين رئاستي الجمهورية والحكومة انطلقت مطلع عهد الرئيس عون.
يبدو جلياً أنه في ظل التطورات الإقليمية الحاصلة، واختلال ميزان القوى في الإقليم لصالح محور الممانعة وحلفائه الدوليين، تغيرت اللعبة وأهدافها: في السابق، عندما كانت الرئاسة المارونية تعرقل السياسة السورية، ومن خلفها الإيرانية، تمت «قصقصة» صلاحيات رئيس الجمهورية، وجُيرت لموقع الرئاسة السني ومجلس الوزراء مجتمعاً. اليوم، ومع رئيس ماروني حليف للمحور السوري – الإيراني، صار المطلوب عكس ذلك تماماً، أي القضم من صلاحيات رئاسة الحكومة السنية لصالح صلاحيات رئيس الجمهورية، وقد بدأ ذلك يُطبق بواسطة الممارسة، وليس بالضرورة عبر تعديل النصوص القانونية، وقد لا يتأخر ذلك.
الحراك الشعبي جعل «حزب الله» أكثر عزماً على المضي في هذه السياسة، خصوصاً مع نجاح الانتفاضة العابرة للطوائف والمناطق والأحزاب في إسقاط ثلاثة أمور أساسية بالنسبة إليه:
– سقط ما يسمى الموقع المسيحي القوي الذي كان يتغنى به «التيار الوطني الحر»، إذ ثبت أنه فقد الكثير من شعبيته بما يتيح القول إنه لم يعد الممثل الأقوى للمسيحيين. ويكون الحزب بذلك قد خسر الغطاء المسيحي.
– خسر الحزب الغطاء السني الذي كان يتمتع به ويريحه إثر استقالة الرئيس الحريري.
– تشظي هيبة الحزب وسطوته أولاً عبر استقالة الحكومة، وهو الذي أعلن أنها لن تستقيل، وثانياً عبر مشاركة مناطق كثيرة جنوبية وبقاعية محسوبة عليه في الانتفاضة، واحتضانها لشعار «كلن يعني كلن».
فما هي الخيارات أمام «حزب الله» ضمن ثابتة عدم تخليه قيد أنملة عن مكاسبه ومكاسب راعيته إيران المحلية والإقليمية؟
في الواقع، ثمة خياران لا ثالث لهما. الخيار الأول هو التمسك بالتسوية، ولو بأشكال مختلفة، وهو يبحث عن غطاء سني يوافق عليه الرئيس الحريري، قد يكون الصفدي أو سواه، لأنه مدرك تماماً أن فقدانه مظلة الحريري سيكون مكلفاً محلياً ودولياً، وأن الدرع الأساسي الحامي له في المرحلة الراهنة هو التمسك بصيغة «التوافق بالقوة» التي أخضع لها الأطراف السياسية الفاعلة كافة. إلى هذا، وبمعزل عن دينامية الانتفاضة، فإن معارضي الحزب من الطبقة السياسية ليسوا في حال تسمح لهم بتحدي هذا الواقع أو محاولة تغييره. ولا ننسى أن كل الضغوطات الغربية بعامة، والأميركية بخاصة، التي يتعرض لها «حزب الله»، لا تستهدفه وجودياً، أو تسعى إلى عكس مكاسبه المحلية والإقليمية بقدر ما تسعى إلى دفع راعيته إيران إلى مفاوضات جديدة حول مشروعها النووي.
وإذا لم ينجح الحزب بتجميل التسوية، الخيار الثاني أمامه هو الانتقال إلى مرحلة المواجهة، واستخدام القوة لقمع الحراك، وتشكيل حكومة مواجهة، ولو كانت مطعمة ببعض الخبراء. ومع أن «حزب الله» لا يحبذ مثل هذا الخيار، لا يصعب التكهن بنتائجه، خصوصاً لجهة جر لبنان سياسياً واقتصادياً إلى المحور الإيراني وحلفائه الدوليين. ونعترف أن الوسائل المتاحة أمام مختلف القوى في لبنان للتصدي له ولتداعياته محدودة، اللهم باستثناء قدرة الانتفاضة على الصمود والاستمرار بزخمها.
في المحصلة النهائية، المشكلة اليوم في لبنان باتت تتخطى مسألة تشكيل الحكومة، لتصبح قضية تحديد وجهته رسمياً في الاصطفافات الإقليمية والدولية، وفق خريطة الطريق التي وضعها نصر الله، وفي الطريق إلى ذلك الإطاحة بـ«اتفاق الطائف»، والتأسيس لنظام رئاسي يدخل لبنان إلى منظومة دول الحزب الواحد إقليمياً ودولياً. أما انتفاضة أو ثورة اللبنانيين، فيبدو أن الجميع يحاولون السير فوقها على اعتبار أنها حادث عرضي وغير مؤثر. ولعل هنا يكمن كعب أخيل هذه السلطة الحاكمة.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها