الأحد ١ أيلول ٢٠١٩ - 10:56

المصدر:

لقاء الإثنين، لمجرد تجاوز مأزق أم لخطة شاملة تنهي أزمة وضعت البلاد على شفير الانهيار؟

بعد إعلان الرئيس بري عن الحاجة إلى حالة طوارئ اقتصادية وإطلاق الدعوة إلى لقاء حوار على مستوى “السياسيين من الصف الأول” تحت عنوان خفض العجز ومعالجة أزمة الكهرباء، ارتقب المعنيون أن يشكل هذا اللقاء فرصة لطرح أفكار واقتراحات تساهم في عملية الإنقاذ. وقد استغرب سياسيون بوجود حلول جاهزة سوف تكون بانتظارهم على طاولة جلسة الحوار المالي – الاقتصادي في القصر الجمهوري، والتي تداعت إليها القوى الفاعلة “شعوراً منها بالمسؤولية” عن المستقبل وتدارك مخاطر الأزمات المتشحة بالسواد على مختلف المستويات الأمنية والمصرفية والمالية والمعيشية والبيئية …، التي تتزاحم لترفع منسوب قلق المواطن على غده.
وما كادت مفاعيل تراجع التصنيف تهدأ حتى أعلن عن إدراج مصرف لبناني على لائحة عقوبات تؤدي إلى عزله وتحريم التعامل معه، بدا للمتابعين أن المطروح في الجلسة المخصصة لحوار من نوع جديد، لن تعدو كونها محاولة لإيجاد مخرج سريع يخفف ضغط المأزق المالي – الاقتصادي الراهن، وليس للتوصل إلى معالجة أزمة تفاقمت واستعصت أو أهملتها الحكومات السابقة ووضعت البلاد على شفير الانهيار. وهناك من يقول “تعمدت بعض هذه الحكومات إدخال البلد في أتونها وسعت إليه عن سابق تصور وتصميم”، بدليل الارتفاع المفاجئ في الفوائد على سندات الخزينة ووصولها إلى مستويات قياسية تجاوزت فعلياً حدود الـ 40 %، أواخر العام 1995، وانعكست قفزة في حجم الدين العام الذي استمر في التزايد المطرد حتى اليوم، بمواكبة سياسة تثبيت سعر الصرف والسماح للحكومة بإعادة هيكلة الدين سنوياً من خلال قانون الموازنة العامة الذي كان يجيز تحويل جزء من الدين العام بالليرة إلى الدولار.
وقد بات من حق المدعوين التساؤل حول خلفية الداعين، وما إذا كانت هذه الدعوة من قبيل رفع العتب، غايتها المثول أمام أعلى السلطات والامتثال بالبصم على بياض، من دون فرصة للمشاركة في إبداء الرأي وتقديم اقتراحات حلول يرونها مفيدة، وقد تكون بديلاً أجدى وأشمل من المطروح، حرصاً على عدم إضاعة فرصة التعاون بين الأطراف كافة كل على مستوى خبرته، باتجاه إقرار خطة تكون علمية وشاملة يساهم فيها الخبراء والمتخصصون، ويجري إقرارها بالتفاهم وعن قناعة وتضمن الالتزم بتنفيذها لاحقاً، بالتكامل مع مبادرات مكافحة الفساد والدعوة إلى وقف الهدر وتحقيق إصلاح جدي للإدارة، مع صدور قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، وإنجاز مشروع أول استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد وبلوغ مشروع قانون حماية كاشفيه مرحلة متقدمة، وتشكيل حكومة إلى العمل، التي اغتنى بيانها الوزاري بالوعود والأحلام والتمنيات بخلاص حقيقي والسعي لتحقيق حلول مستدامة لمختلف الأزمات المزمنة وفي طليعتها الكهرباء والنفايات، والوعد بمعالجة عميقة للتشوهات، التي نالت من الاقتصاد ومالية الدولة. وها هو المواطن من محدودي الدخل، بعد إصابة راتبه التقاعدي بسهام الضريبة الطائشة أو إلغاء حقه بالاستمرار والاستقرار في سكنه، يفقد الاطمئنان على مدخراته من جنى العمر في المصرف الذي أودعها فيه، ليدخل في دوامة القلق الإضافي من احتمال إدراج هذا المصرف على لائحة استهداف خارجي يهدد استقرار المجتمع اللبناني بتدابير عقابية تتخذها سلطات ومؤسسات عابرة للحدود في اعتداء سافر على السيادة الوطنية، على مرأى ومسمع المسؤولين المستقرين في أعلى قمة السلطة، لا يتذكرون المواطن إلا لدعوته للتعاون في سبيل مكافحة الفساد أو للمساهمة في تحمل المزيد من أعباء الأزمة والتضحية من أجل بقائهم.
ولأن أزمة المالية العامة ومديونية الدولة مستمرة على تفاقمها منذ عقود، وباتت معالجتها اليوم أحوج من أي وقت مضى إلى الاعتراف بكامل أوجه نشاط الدولة المالي وإدراجه ضمن إطار الموازنة العامة وحساباتها، وتوفير ما يلزم من معلومات لبيان حقيقة أوضاع المالية العامة ومديونيتها، بما يسمح باستقراء منحى اتجاهاتها المستقبلية، فإن المطلوب من المسؤولين في مختلف مواقع السلطة والصلاحية، قبل الدخول في مناقشة أية حلول أو اقتراحات للمعالجة، هو إبداء منتهى الصراحة والصدق في التعاطي مع الحقائق، بما فيه وضعية الخزينة بكل ما لها من حقوق وعليها من التزامات ومختلف أرقام وأشكال العجز والمديونية، المعلن منها والمستتر ومصادر هذه المديونية وعملاتها وأسعار فوائدها وآجال استحقاقها، وكل ما يمكن أن يساهم في زيادتها، بما فيه الاعتمادات المدورة وتجاوزاتها وأعباء الاستملاك الصادرة مراسيمه وما يرتقب صدوره منها، واتفاقيات القروض المنعقد منها وما هو قيد التحضير لعقده، ليمكن إنتاج موازنة علاجية ناجعة… ، لا يقتصر الاهتمام في إعدادها على أبواب النفقات منها وإنما تولي هدف تنمية الإيرادات العناية التي تستحق، فتشمل التدابير المناسبة لتفعيل الإدارة الضريبية والرقابة الداخلية على المتدخلين في تحصيل الضرائب والرسوم، من مصارف وشركات خاصة من غير صناديق الخزينة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرقابة الخارجية على إدارة الأموال العمومية وتحقيقها وتداولها وحفظها وحمايتها في مسار تحركها، ….
ونكتفي، للإضاءة على أهمية ومخاطر إهمال إيرادات الموازنة وعدم إيلائها الاهتمام والعناية الكافيين والملائمين بحسب مستوى مخاطر كل نوع من أنواعها، وكذلك للدلالة على مخاطر إهمال ممارسة الرقابة على الأموال العمومية وحساباتها بمختلف صيغها، نكتفي بمثالين: الأول ويتعلق بعدد الاختلاسات المتمادية للأموال العمومية، التي لا تكتشف إلا بعد خروج المختلس من الخدمة أو بالصدفة. ولمن يرغب بالتحقق من حقيقة هذه الوقائع مراجعة أخبار الأحكام الصادرة عن الهيئة العليا للتأديب في هذا المجال. أما الثاني فهو ما كشفت عنه مؤخراً بالصدفة أيضاً، وليس عن طريق الرقابة الدورية، قضية شراء مبنى “تاتش” بمبالغ طائلة، المبني على عقد إيجار، هو أيضا بمبالغ طائلة، صرفت من حصيلة إيرادات نشاط الخليوي خارج أية رقابة على تنفيذ العقد من غير الوزير الذي استأجر والآخر الذي استكمل خطة الشراء المصممة على ارتفاع بدل الإيجار لتبرير ارتفاع سعر الشراء والدفاع عنه. جرى كل ذلك، على ما بدا من الأخبار والمؤتمرات الصحفية بهذا الصدد، دون ممارسة ديوان المحاسبة رقابته على تنفيذ العقد ولا على صافي حصيلة هذه الإيرادات التي يجري تحويلها إلى خزينة الدولة، بدليل عدم خضوع قطع حساب الموازنة الذي تدخل ضمنه هذه الحصيلة والأمر ثابت لا يحتاج إلى دليل.
فكيف يمكن، دون ممارسة رقابة جدية تقتضي فحص النظم والتحقق من فعالية الضوابط المقررة في النصوص واحترامها، أو من دون تدقيق الحسابات للاطمئنان إلى صحة وسلامة تطبيق الأصول في تحقيق وتحصيل وتحويل ما بلغ مجموعه ستة عشر ألف مليار ليرة خلال العام 2018، على سبيل المثال، تتوزع على عشرات الأنواع من الضرائب والرسوم وتسلك حصيلتها شبكة واسعة تتوزع على عدد كبير من فروع المصارف وشركة البريد وغيرها من الشركات المجاز لها قبض واستيفاء هذه الضرائب والرسوم وتوريد حصيلتها إلى الخزينة.
المطلوب أيضا مع كل طرح بزيادة أي نوع من أنواع الضرائب بيان تقديرات حصيلة الزيادة المتوقعة منها، قياساً على ما جرى تحصيله خلال السنوات الأخيرة الماضية، وتحديد مدى انحراف التقديرات عن الواقع المحقق وتفسير أسباب ذلك، وبيان دور ومسؤولية الإدارة الضريبية وأجهزة التحصيل في النتائج المذكورة، إضافة إلى تقدير مرونة الاستهلاك مقابل زيادة الضرائب، قياساً على طاقة الاقتصاد على الاحتمال ودرجة نموه، وكذلك على قدرة المستثمرين على الاستمرار في أنشطتهم قبل اتخاذ قراراتهم بإقفال مشاريعهم وتسريح العاملين فيها .
ويجب ألا ننسى دور الأجهزة الرقابية لنسألها فتنبئنا بنتائج اضطلاعها بمهامها وجدوى وجودها طوال السنوات الماضية، وكذلك عن نواياها في إطار مرحلة تطبيق الحلول التي سوف تشملها الخطة العتيدة. وإن كان بنتيجة التجربة، يمكننا القول بأنه كانت لديوان المحاسبة، خلال حقبة ما، دور متميز في التنبيه والإضاءة على مخاطر اتجاهات المالية العامة ومنحى تطور مديونية الدولة، التي حذّر منها في أكثر من تقرير سنوي عالج فيه شؤون حسابات الموازنة العامة والإشكاليات المترتبة عن وضع بعض النظم المحاسبية والمعلوماتية في وزارة المالية موضع التطبيق، قبل توفير شروط أفضل لنجاح تطبيقها، وعن عدم ترابط النظم المعلوماتية المعتمدة في إعداد حساباتها والتي ساهمت في تعثر وتعذر وتأخر إعداد حسابات المالية العامة لفترة طويلة، الذي ما زلنا نعاني من نتائجه حتى اليوم.
نعم، إن المطلوب اليوم أولاً وقبل كل شيء، ليس إقرار تدابير جاهزة والبصم عليها، وإنما هو أن يترك أمام طاولة الحوار مكان لكرسي “للاعتراف”، وأن يأتي المعنيون بالاقتراحات وبأوضاع الدولة المالية ومديونيتها بكل دفاترهم وسجلاتهم وأوراقهم وبياناتهم ومستنداتهم وأدلتهم والمعلومات والإيضاحات اللازمة والكافية لإقناعنا بصحة وصوابية ما دبروه من زيادات ضريبية غير مباشرة، عمياء لا تميز في الأوضاع الاقتصادية للمكلف المعرض للخضوع لها، فتصيب المواطن الأعزل، كـ ” المنايا خبط عشواء من تصب تفقره ومن ينجو يثري ويغتنيِ”.
إن جلسة حوار الاثنين القادم لا يجوز أن تكون فرصة للترف والتوسع في الإنفاق على حساب الزيادات الضريبية المطروحة للموافقة وليس للنقاش، واستمرار الهدر والفساد وتخلف الأجهزة الرقابية عن ممارسة دورها بكفاءة وفعالية. كما أنه لا يجوز لهذه الجلسة أن تنعقد بغاية أخذ العلم بحلول جاهزة لمأزق مرحلي، اعتدنا في مثله، اللعب على الألفاظ والتحايل على المنتديات والمراجع الخارجية والتشاطر بالتعبير في عرض الوقائع والبيانات والأرقام، كما هو الحال بالسبة إلى إدراج سلفة الخزينة للكهرباء خارج الموازنة وحساباتها لإنتاج مؤشرات متحيزة غير موضوعية حول حقيقة عجز الموازنة، وكذلك من غير الجائز استمرار النهج المعتمد في إعداد الخطط وعرض نتائج تنفيذها وتأجيل معالجة التعقيدات المترتبة عنها والتملص لاحقاً من بعض مقتضياتها، وإخفاء العيوب والتغني بمتابعة المؤسسات الدولية وإشادتها بما نقول وليس بما نفعل. أو لم يقل النائب سليم سعادة من مجلس النواب “إننا نكذب وهم يعرفون أننا نكذب…” !؟
إن المطلوب في جلسة الإثنين هو الانطلاق من واقع الأزمة المالية – الاقتصادية على كامل حقيقتها بمختلف أبعادها ووجوهها والاستفادة من نتائج تجارب المعالجات والطروحات والوعود السابقة وأسباب فشلها، المتمثلة بتجميلها وإخفاء ملامحها السلبية واقتصار المعالجة على الطفح الظاهري للأزمة، دون التطرق إلى عمق أساس منشأها وظروف تراكمها. وبالنتيجة، وضع خطة مالية – اقتصادية جدية وعلمية تكون مبنيةً على معلومات وأرقام وحقائق ووقائع صحيحة، صادقة وموثوقة، وعلى هذا الأساس تكون، بعد إقرارها، قابلةً للتنفيذ وتضمن توفير حلول مستدامة للأزمة الخانقة التي تعيشها المالية العامة والاقتصاد والمواطن منذ عقود.
أما وقد توفرت معلومات تشير إلى زيادات يرتقب اقتراحها على الضريبة على القيمة المضافة والرسوم على المحروقات، إضافة إلى تدابير أخرى مبيتة ربما تكون أخطر، ولأن لا جدوى من حل لا يضمن تحقيق “فائض أولي” يتوفر من حصيلة هذه الزيادات، فإن السادة المجتمعين على اختلاف مواقعهم مدعوون لرفض البحث بأية حلول يجدونها محضرة مسبقاً وقبل توفير كل ما يلزم، كما أسلفنا من معلومات، وحقائق ومعطيات وتقديرات ومبررات ووقائع تكون مقنعة وقابلة للبناء عليها، تأخذ بعين الاعتبار التجارب السابقة والوعود المتكررة بتحقيق هذا “الفائض الأولي” في تنفيذ موازنة 2020، ليتيح المباشرة باستهلاك الدين العام، على مدى برنامج زمني واضح ومحدد بالسنوات وبالقيم، بحيث يتحمل مسؤولية وآثام ما سوف يضيفه إلى هذه الموازنة المؤتمرون والداعون إلى اللقاء كافة.
بعد التذكير بالزيادات الضريبية المطبقة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، عملاً بأحكام القانون رقم 45/2017، الصادر بهدف تغطية تكلفة السلسلة والقانون رقم 64/2017، إضافة إلى ما أقر منها بموجب قوانين موازنات 2017 و 2018 و 2019، على وعود بالسيطرة على العجز دون جدوى، وكذلك التذكير بإقرار خطة الكهرباء الميوّمة بداية نيسان 2019،
وفي ظل الشكوك القائمة حول الاقتصاد العالمي وصعوبة التكهن بمستقبله وغموض أوضاع لبنان غير المضمونة، إن المطلوب بإلحاح اليوم قبل الغد هو توفير درجة مقبولة من الثبات والاستقرار على المستوى الداخلي والدفع باتجاه معالجة الأمور بسرعة وتوفير ظروف تنمية طبيعية تدفع الاقتصاد اللبناني باتجاه النمو، بالتوازي مع إطلاق دينامية مكافحة الفساد وتحرير آلياتها من القيود، وإبداء الجدية اللازمة لتنفيذ الخطط المطروحة على مستوى أزمة الكهرباء، التي تسببت بتراجع تصنيف لبنان مالياً، وعلى مستوى غيرها من المرافق والاستفادة من عروض الدول المستعدة للمشاركة في المرحلة القادمة،
وفيما يبدو أن تدابير لقاء الإثنين قد تقررت والمطلوب “البصم” عليها، فإن أفضل سبيل لمواجهة “المطبوخ” هو تقديم بديل أنجع يتم التعبير عنه من خلال تقديم تصور موضوعي وجامع لمعالجة الأزمة المالية التي وضعت البلاد على شفير الانهيار. ولا بد أن يبدأ كل ذلك من تحقيق إنجاز فعلي جديد، يكون فورياً سريعاً وأكيداً على مستوى أزمة الكهرباء المزمنة، ويؤدي إلى إحداث تغيير جدي وتحقيق تقدم ملموس على مستوى تنفيذ خطتها، يبدأ بـإنهاء التفاوض الدائر منذ أكثر من خمسة عشر شهراً، والمباشرة بتنفيذ معمل دير عمار وتلزيم محطات الكهرباء بالشراكة مع القطاع الخاص، وفقاً لأحكام قانون تنظيم هذه الشراكة رقم 48/2017، وتعيين مجلس إدارة للكهرباء والهيئة الناظمة، وإطلاق دينامية مكافحة الفساد وتحرير آلياتها، وتطبيق القوانين الصادرة، وربط أي زيادات محتمل طرحها على الضرائب بدراسة جدوى مالية تحليلية تفصيلية تكون مقنعة في تبرير غاياتها وحصيلتها المرتقبة واستخدام هذه الحصيلة في ضوء التجارب والوعود الماضية التي ظلت حبراً على ورق وأبقت الأزمة على تفاقم حدتها ومخاطرها.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها