الثلاثاء ٢٩ أيلول ٢٠٢٠ - 08:36

المصدر: اللواء

ما بين مبادرة ماكرون وناغورني كاراباخ استحالة ترميم الهلال الشيعي

ربما يروق لبعض القوى السياسية التعامل مع حيثيات المبادرة الفرنسية من التسمية حتى الإعتذار باعتبارها إحدى أشكال التشاطر أو العبث غير المسؤول الذي اعتادوه منذ بدء الإحتضان العربي والدولي للبنان، مالياً وسياسياً بعد اتّفاق الطائف. الزمرة التي حكمت لبنان وسيطرت على قراره بكلّ صبيانية، بدّدت رصيده من الدعم الدولي والإقليمي في مشاريع إثراء وفساد وتصدّر، مذهبية وعائلية، ولاحقاً في اصطفافات إقليمية عبّرت عن فائض في تقييم القدرة وجهل في تقدير المخاطر، وقادها نظام ديكتاتوريفي دمشق وآخر متطرف في طهران.
بالأمس إصطدمت الصبيانية اللبنانية بالجدار الدولي الكبير،وثبُت أنّ ما اعتقده البعض إستماتة فرنسية لإنجاح المبادرة لم يكن إلا وهماً لبنانياً. يسجّل للرئيس الفرنسي الرئيس إيمانويل ماكرون توصيف القوى السياسية في لبنان بنعوت الخيانة وتقديم مصالحها الأسريّة على المصلحة الوطنية والفساد، كما يسجّل له تجاوزه عدداً من المحظورات التي دأبت عليها البلوماسية الفرنسية:
أولاً، لم يتردّد الرئيس ماكرون وللمرة الأولى في توجيه الإتهامات لحزب الله بتعطيل الحلول وبالسيطرة على مفاصل الدولة، متّخذاً موقفاً من الجناح العسكري للحزب ومن عدم جواز إستمراره كميليشيا مسلّحة وكحزب سياسي في الوقت نفسه، متّهماً إيّاه مع حركة أمل بمحاولة فرض خياراتهما الطائفية وتعزيز معسكراتهما، وداعياً الحزب بلهجة التّحدي إلى عدم المبالغة بتقدير قوته.
ثانياً، أسقط الرئيس ماكرون الهالة التي أحاطت بالرئيس بري وأبقته دائماً خارج دائرة الإتهام، بل ووضعته في موقع الشخصية الضامنة والقادرة على تشكيل حلقة الوصل لإستمرار عمل النظام. إتهمه الرئيس ماكرون بكلّ وضوح بالرضوخ لإرادة حزب الله والإندفاع معه «لتشييع» وزارة المال خلافاً للدستور. وفي الإطار نفسه إتّهم رئيس الجمهورية بكلّ صراحة بالإخلال بواجباته والتخلي عن دور دستوري منوط به، وألقى في نفس الوقت اللوم على الرئيس سعد الحريري لتقديم تنازلات تتعارض مع المبادرة وتصبّ في تثبيت «شيعية وزارة المال».
ثالثاً،جانبَ الرئيس ماكرون إتهام اإيران بالعرقلة وهو المدرك أنّ اللعبة تدار من طهران وليس من حارة حريك، وبالتالي فإنّ مهلة الأسابيع التي أُعطيت للسلطة في لبنان لتشكيل لحكومة،إنما هي مهلة معروضة على طهران لتعديل موقفها والطلب إلى ممثليها في لبنان بالتراجع إذا كانت تريد الحفاظ على بعض التعاطف الاوروبي معها في مسائل ستُقدم الولايات المتّحدةعلى طرحها أمام مجلس الأمن.
قد يكون من الواقعية بمكان إستعراض المتغيّرات الدولية في الإقليم والمحيطة بالمبادرة الفرنسية، والتي لا تقتصر على الساحة اللبنانية. هذه المتغيّرات تعبّر عن ميزان القوى الجديد الذي سيتحكّم بالتسوية أو بمسار الأمور الذي تكلم عنه الرئيس الفرنسي بعد إنقضاء مهلة الاأسابيع الستة:
أولاً، عودة البحر المتوسط بحيرة أوروبية بامتياز ببعديها الأمني والإقتصادي. المؤشرات على هذه العودة أكثر من لافتة، وهي بدأت بانسحاب سفينة التنقيب التركية من بحر إيجه، لتستكمل باتّفاقات لزيادة القدرات اليونانية البحرية والجوية ولتتوّج بزيارة دعم لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لأثينا، ودعوة تركيا الى ترسيم الحدود مع اليونان. هذا الملف الذي كان يؤرق الأوروبيين قد أصبح تحت السيطرة الأميركية. سبق ذلك إسقاط كلّ الاإتفاقات التركية الليبية مع حكومة فايز السرّاج وإنسحاب المرتزقة الأتراك من ليبيا.
ثانياً، توجيه فائض القوة التركي الى الشرق بعد الإنسحاب من المتوسط وإيقاظ الحلم التركي القديم للتواصل مع المجموعات الطورانية في شرق آسيا. ليس من قبيل الصدفة إعادة إشتعال جبهة ناغورني كاراباخ وتدخّل تركيا المُعلن في الصراع بكلّ إمكاناتها. هذا التدخل يعوّم شعبية الرئيس أردوغان لأنه يعكس حالة الإجماع الداخلية، بعكس الإنقسامات الموجودة حول أولوية التدخل العسكري التركي في سوريا وليبيا وغيرها من المناطق،على الرغم مما يحمله ذلك من مخاطر الإشتباك مع روسيا التي تُعتبر أكبر داعمي أرمينيا. فإلى جانب الروابط التاريخية والوطنية والعِرقية الراسخة بين البلدين، فإنّ تركيا وأذربيجان تربطهما مصالح إستراتيجية كبيرة تتعلّق بخطوط نقل الغاز، وحاجة أذربيجان الملحّة لتركيا كممر مهم للعالم الخارجي، بالإضافة إلى المصالح المرتبطة بكوّن أذربيجان ممراً مهماً لتركيا لنفوذها القديم في القوقاز ووسط آسيا.
ثالثاً، تقبّل الدول العربية والإسلامية إتّفاقية السلام بين الإمارات وإسرائيل،مما صدم  القيادات الإيرانية وأفقدها العمق الاستراتيجي لسياساتها التي تعتمد على تخوين العرب وتحريض الشارع العربي تحت غطاء «المقاومة». حتى سوريا لم تبدِ أي اعتراض بل على العكس كانت تتقبل المساعدات الإماراتية بالتزامن مع توقيع إتفاقات التطبيع مع إسرائيل. هذا بالإضافة إلى أنّه سبق للرئيسين ترامب وبوتين أن رعيا عودة القوات السورية إلى الجنوب السوري مقابل إبعاد القوات الإيرانية عن حدود الجولان وحدود الأردن.
لا يمكن مقارنة الأمس باليوم،وعودة المجرم الى مسرح الجريمة لن تُجدي بالأدوات عينها. ليس من الصدفة تزامن عودة الهجمات الإرهابية بالخلاف على تشكيل السلطة في لبنان ومحاولة تكريس أعراف جديدة خارجة عن الدستور. من كفتون إلى وادي خالد إلى محاولة إقتحام ثكنة عرمان للجيش اللبناني من قِبل أحد الإرهابيين لتفجير حزام ناسف، التاريخ يُعيد نفسه ولو بعد حين. يأخذنا المشهد إلى الأزمة السياسية التي افتعلها حزب الله لترجمة نتائج عدوان 2006. لقد أفضى توازن القوى الإقليمي حينها إلى توقيع إتّفاق الدوحة وإدخال بعض الأعراف الخارجة عن الدستور الى الحياة السياسية كثمن لفك إعتصام الوسط التجاري في 21 أيار 2008.
ربما لم يلاحظ رافضو المبادرة الفرنسية والمتعالون عليها، أو ربما لم يوعز لهم بأنّ المتغيرات في الإقليم كثيرة. تغيّرت الادوار وتداخلت مع الصراع المستجدّ على النفط والغاز من شمال شرق المتوسط الى جنوبه إلى شرق آسيا، وأخذت الإندفاعة الإيرانية دول الخليج العربي الى توقيع إتّفاقات تطبيع واعدة مع إسرائيل وتحوّل الصراع إلى صراع فلسطيني – إسرائيلي يدور حول تثبيت حلّ الدولتين.
تغيّرت أدوات تحقيق المكاسب على الساحة اللبنانية، وأضحى لبنان جزءًا من مشهد إقليمي أوسع يمتدّ من الخليج العربي حتى الحدود الروسية. المبادرة المعروضة على الجيوش التركية التي كانت تقض مضاجع الأوروبيين القتال على حدود ناغوزني كاراباخ والمعروض على اللبنانيين مبادرة ماكرون.
وما بين مبادرة ماكرون وناغورني كاراباخ يستحيل ترميم الهلال الشيعي.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها