رضوان السيد

الجمعة ٢١ آب ٢٠٢٠ - 07:41

المصدر: الشرق الأوسط

ما قبل المحكمة الدولية وما بعدها

اعتادنا في لبنان بعد كل حدثٍ كبيرٍ على القول: ما قبل كذا ليس كما بعده. وقد ردَّدنا ذلك أخيراً بعد زلزال 4 أغسطس (آب)، فقلنا: ما بعد 4 آب ليس كما بعده! إنما بعد حكم المحكمة الدولية في مقتل الرئيس رفيق الحريري بعد انتظار خمسة عشر عاماً، ما خطر ببال أحدٍ من أنصار الحريرية أو خصومها أن يعتبر الحكم في 18 أغسطس واقعة مغيِّرة. ذلك أنّ العبارة بحدّ ذاتها تحمل نوعاً من التفاؤل رجاء التغيير في وضعٍ قائمٍ غير مستحبّ. وهو الأمر الذي لم يبعثْ عليه الحكم باعتباره قد جاء مخفَّفاً في نظر البعض، أو يُعاني من الفوات والتفويت في نظر البعض الآخر. ولستُ مختصاً لا في القانون الدولي ولا القانون الجنائي اللبناني، لكنني ما انتظرتُ كثيراً من حكم المحكمة، ليس بسبب العبقرية أو الألمعية؛ بل لأنني قرأتُ بتمعُّن القرار الاتّهامي الطويل الذي أصدره المدعي العام للمحكمة عام 2014. المدعي العام اتهم في قراره خمسة من أعضاء «حزب الله» باغتيال الرئيس رفيق الحريري، واستظهر أنّ زعيمهم مصطفى بدر الدين. وتحدَّث بشكلٍ أطول عن الدوافع السياسية للنظام السوري والحزب المسلَّح لاغتيال الحريري بما لا يخرج عما ذكره حكم المحكمة في 18 أغسطس 2020. وقدَّر المدعي العام أنّ التفكير في الاغتيال لدى النظام السوري والحزب بدأ في أحد شهري سبتمبر (أيلول) أو أكتوبر (تشرين الأول) عندما بدأت متابعة الحريري ومراقبته في كل مكانٍ في لبنان؛ مع انتهاز أو ترقُّب ظروف الزمان والمكان الملائمين. بينما ذهبت المحكمة في قرارها النهائي إلى أنّ الاغتيال تقرر من الجانب السوري والحزب خلال الأسبوعين الأولين من شهر فبراير (شباط) 2005، وقد قُتل الحريري كما هو معروف في 14 فبراير. وهذا التقدير يستند إلى أنّ الفريقين يئسا من الحريري عندما جرى التأكد أنه صار ضد الوجود السوري في لبنان (مثل المعارضين المسيحيين)، وأنه دخل في تحالُفٍ معهم ومع وليد جنبلاط فيما يشبه الجبهة لإخراج الجيش السوري، وليأتي القرار الدولي رقم 1559 الذي يطالب بخروج الجيش السوري، ونزع سلاح كل الميليشيات، والذي قادته الولايات المتحدة وفرنسا، وعلاقة الرئيس الحريري بالرئيس الفرنسي جاك شيراك معروفة.
اختلف المدعي العام مع محكمة الدرجة الأولى إذن في تحديد تاريخ قرار الاغتيال، وفي تحديد عدد المتهمين يقيناً، فأدان واحداً هو سليم عياش بدلاً من أربعة كما رأى المدعي العام. وأنا أرى أنّ هذين الأمرين تفصيليان. إنما الأهمُّ في النهاية فيما اتفقا عليه هو أنهما بعد أن حدَّدا الدوافع السياسية للجريمة والتي تقع في حضني النظام السوري والحزب، ما ذكرا الآمِرَ أو الآمِرين بالقتل أو مَنْ أمر مباشرة مصطفى بدر الدين أو سليم عياش بالقتل. لقد ذكر المدعي العام وذكرت محكمة الدرجة الأولى أنّ المجموعة كلها ومنها سليم عياش أعضاء وقادة عسكريون في الحزب. لكنْ في يوم ارتكاب الجريمة (14 فبراير) ما كان هناك على مسرح الجريمة للتنفيذ إلاّ سليم عياش. والمدعي العام الذي يضيف الأربعة الآخرين إلى الاتهام، ليس متيقناً إلاّ من وجود عيّاش. أما ذكره لثلاثة من الأربعة الآخرين فلأنهم شاركوا في عملية التضليل وحَرْف الانتباه بعد وقوع الجريمة من خلال الكاسيت المصوَّر لـ(أبو عدس) الذي أوصلوه إلى محطة الجزيرة و«رويترز» وأن منظمة «النصرة والجهاد» الوهمية هي التي نفّذت الجريمة. المحكمة لم تر أن التليفونات من أجل الإيصال لا تدل على علمهم ولا على اشتراكهم، مع أنه ثابتٌ من أجهزة الاتصال أن هؤلاء شاركوا في ملاحقة الحريري ومراقبته طوال أربعة أشهر! لقد سيطرت على المحكمة فكرة أنّ جماعات الإرهاب المحترفة لا تُطْلع الوحدات التي تكلفها بالقتل على كل شيء، بل يقوم كل قسم بمهمة محددة من دون أن يعلم شيئاً عما يقوم به زملاؤه!

من الذي نظّم هذه العملية المعقدة، وصولاً للأمر بالقتل؟ المحكمة تقول إنها لا تملك دليلاً على مَنْ أَمر ووجَّه، وهي في النهاية لم تستمع إلى أي من المتهمين. فمصطفى بدر الدين قُتل عام 2016 في سوريا وأعلنه الزعيم المعصوم بطلاً جهادياً، أما الآخرون فرفض «حزب الله» حتى الآن تسليمهم باعتبارهم كما قال الزعيم «من قدّيسي الجهاد والاستشهاد»، وهو ما عاد مطلوباً منه الآن غير تسليم سليم عياش، ولن يفعل ذلك بالطبع!
هناك إذن وجوه قصورٍ وتفويت. لكنّ المتهم الأوحد معروفٌ لدى المحكمة أنه من كوادر الحزب. وقد اكتفى سعد الحريري بذلك ليقول إنّ المطلوب كان الحقيقة والعدالة، وقد تبينت الحقيقة، وينبغي أن تتحقق العدالة بالقصاص من المتهم، وبالسير في طريق المحاسبة لمغادرة حقبة سلاح الجريمة القتل والتفلت من الحساب.
ماذا سيحدث الآن؟ هناك من يقول إنّ الحريري الذي يدعم الحزب رجوعه لرئاسة الحكومة سيسهِّل الأمر عليه ولو لم يحضر هو وجبران باسيل في الحكومة الحيادية التي يطالب بها المجتمع الدولي الحكم اللبناني. وهناك من يذهب إلى أنّ الحزب وبسبب اشتداد الأزمة عليه سيتشنج أكثر، ولن تتشكل الحكومة المطلوبة، وسينتظر الانتخابات الرئاسية الأميركية رجاء أن يأتي بايدن؛ أما إذا بقي ترمب فعندها تكون التنازلات ممكنة من ضمن صفقة!
منذ حدث بيروت الهائل، بل قبل ذلك بشهرين طالبتُ الفرقاء السياسيين ومنهم تيار المستقبل بالامتناع عن الشراكة السياسية مع الحزب إلى أن يُلقي سلاحه ويدخل في الحياة الوطنية مثل سائر الأحزاب – إضافة إلى حكومة الاختصاصيين المحايدة. وبعد الانفجار أو التفجير طالبنا بالتحقيق الدولي، وبالخلاص من العهد وفساده. ذلك أنّ النظام القائم الآن هو نظامٌ للعسْف والفساد والعداء للعرب والعالم بحراسة الحزب المسلح.
ليس بعد حكم المحكمة الدولية فقط سيبقى لبنان كما كان، بل وبعد 4 أغسطس أيضاً إن لم يناضل اللبنانيون من أجل مكافحة العهد وفساده، وسلاح حزب السلاح!

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها