الأثنين ٢٩ كانون الثاني ٢٠١٨ - 10:04

المصدر: الراي

هناك ما تخفيه الزبالة في لبنان

مصيبة لبنان انّه في تجاذب بين من يشدّ به إلى خلف ومن يدفع به إلى أمام. ليس ذهاب رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري إلى دافوس حيث يلتقي عدداً من زعماء العالم، سوى تأكيد للرغبة في التقدّم ولرفض لبنان الانتماء الى ثقافة الموت. هناك من لا يزال يسعى إلى انتصار ثقافة الحياة في لبنان ويعمل من أجل ذلك. ليس سماح وزير الداخلية نهاد المشنوق بعرض فيلم «ذي بوست» لستيفن سبيلبرغ، سوى تعبير عن إصرار لبنان على الانتماء إلى كلّ ما هو حضاري في العالم بدل البقاء في أسر التخلّف وأسر الذين اغتالوا رفيق الحريري قبل 13 عاما من اجل ان لا تكون هناك قيامة للبنان يوما.

قبل اغتياله بسنوات عدّة، وهو اغتيال حصل في مثل هذه الايّام من العام 2005، كان الحريري في منزله في باريس يستعدّ للذهاب الى دافوس للمشاركة في اللقاء الذي يجمع في يناير من كلّ سنة، بعض كبار الزعماء وكبار الاقتصاديين ورجال الأعمال في العالم.

في اللحظة الأخيرة، اضطر رئيس مجلس الوزراء اللبناني الى الامتناع عن الذهاب الى دافوس جراء ضغوط مارسها النظام السوري، الذي كان وقتذاك نظام الوصاية على لبنان. كان همّ النظام السوري محصورا في منع أي انفتاح لبناني على العالم من اجل الا يكون البلد على الخريطة السياسية للشرق الاوسط. كانت الحجة ان في دافوس، إسرائيليين، وانّ حضور دافوس بمثابة «تطبيع مع العدوّ».
من يريد ان يطبّع مع من؟ لم يكن هناك من جواب عن مثل هذا السؤال لدى نظام سوري يكتسب شرعيته من تسليم حافظ الأسد الجولان إلى إسرائيل في العام 1967، عندما كان لا يزال وزيرا للدفاع.
لا اذكر تماماً السنة التي منع فيها النظام السوري، الحريري من الذهاب الى دافوس. كلّ ما اذكره انّي ذهبت شخصيا في تلك السنة الى دافوس وشاهدت بامّ العين رجال أعمال سوريين من الذين يحظون برضا النظام حاضرين في دافوس. اتذكّر تماما انّه كان مسموحا للنظام السوري المشاركة بطريقة غير مباشرة في اللقاءات التي ينظمها «الملتقى الاقتصادي الدولي» في دافوس شتاء وفي الشرق الاوسط في الربيع، أكان ذلك على الضفّة الأردنية من البحر الميّت او في شرم الشيخ. في المقابل، كان ممنوعا على لبنان أن يكون حاضرا في دافوس. كان عليه التسلل الى البحر الميّت او شرم الشيخ وان لا تثير مشاركته الرسمية ضجّة كبيرة.
حضر الإسرائيليون ام لم يحضروا، لم تكن تلك قضيّة. من يريد من العرب الاجتماع بالاسرائيليين في دافوس، كان يستطيع الاجتماع بهم. من كان يرفض ذلك كان يتفاداهم. الأكيد ان رفيق الحريري كان سيتفادى الإسرائيليين، لكنّ المــشكلـة كانت في ان النـــــــظام السوري لم يكن يريد للبنان ان يكون موجودا على خريطة الشرق الاوسط والعالم.

ما نشهده اليوم هو محاولة محفوفة بالمخاطر ومكلفة للحؤول دون خنق لبنان. يقوم سعد الحريري بهذه المحاولة التي تستهدف التأكيد أن البلد لم يستسلم تماما لـ «حزب الله» وانّه لا يزال يقاوم. لا تزال ثقافة الحياة تقاوم ثقافة الموت التي تسعى ميليشيا مذهبية تابعة لإيران إلى فرضها على اللبنانيين. هذه الثقافة، ثقافة الموت، غريبة عن لبنان الذي كان في الماضي بجامعاته ونمط الحياة فيه، قبل ايّ شيء آخر، مثلا يحتذى به في المنطقة كلّها.
هل مطلوب حاليا أن يموت لبنان؟ السؤال مطروح بعدما انتفض الأمين العام لـ «حزب الله» ضد فيلم لا يعرف أن يلفظ اسم مخرجه وما القيمة العالمية لهذا المخرج. ما فعله نصرالله ليس مستغربا. من يعتبر يوم السابع من مايو 2008، وهو اليوم الذي غزا فيه «حزب الله» بيروت وانتقل بعد ذلك إلى الجبل، «يوما مجيدا»، يمكن ان يقول ايّ شيء. يستطيع قول ايّ شيء لتبرير انتقال الوصاية على لبنان من النظام السوري إلى النظام الايراني ولتبرير انفلات الغرائز المذهبية بأبشع صوره.
لم يستسلم لبنان بعد. ذهاب سعد الحريري الى دافوس دليل على ان لبنان لا يقبل ان يكون تحت رحمة «حزب الله» وثقافة الموت التي ينادي بها. لبنان ما زال يقاوم. الفارق انّه صار على لبنان اللحاق بدول عربية سبقته بدل ان يكون مثالا يحتذى به وأن تكون بيروت منارة الشرق الاوسط والعالم العربي من المحيط إلى الخليج ثقافياً وحضارياً وانسانياً قبل ايّ شيء.
من يريد ترجمة عملية لهذا الكلام يستطيع العودة الى ما تشهده دولة حديثة مثل دولة الامارات العربية المتحدة من تطوّر على كل صعيد، بما في ذلك الصعيد الإنساني والحضاري. صار في هذه الدولة وزارة للتسامح، نعم وزارة للتسامح، وذلك منذ فبراير 2016. يشغل حقيبة التسامح الشيخ نهيان بن مبارك الذي يقول في مقابلة اجراها معه الزميل رشيد الخيّون ونشرت قبل أيّام في صحيفة «العرب»: «نحن لا ننظر إلى التسامح باعتبار انّه عفو عند المقدرة، بل نرفض هذا المفهوم أصلا ونعتبره غير ملائم لما نسعى إلى تحقيقه. فالتسامح ليس تنازلا او مصالحات وتهدئة خواطر وانّما هو ثقافة وسلوك».
هناك تشديد في الامارات على التعليم والبرامج التعليمية ونوعية الأساتذة. هناك بلد يسعى فيه القيمون عليه إلى المحافظة على ارث الشيخ زايد بن سلطان مؤسس الدولة التي يعيش فيها أناس من 200 جنسية.
كان لبنان في الماضي في طليعة الدول التي تقدّم نموذجا عن القدرة على الانتماء إلى كلّ ما هو حضاري في هذا العالم. كان التسامح من القيم اللبنانية قبل ان يعمل «حزب الله» على تغيير وجه لبنان بدءا بتغيير طبيعة المجتمع الشيعي فيه، هذا المجتمع الذي لا يزال قسم منه يقاوم الهيمنة وثقافة السلاح.
من الواضح ان لبنان فقد ميزة الانفتاح التي ميّزته منذ قيام الجمهورية اللبنانية. يكفي للدلالة على ذلك صدور حكم، عن محكمة عسكرية، على الزميلة حنين غدّار، لمجرد انّها وصفت واقعا يشكو منه لبنانيون كثيرون ولم يعد من مجال لتجاهله.
يقف لبنان عند مفترق طرق. هل يسقط او لا يسقط؟
الثابت ان لبنان لم يعد قدوة. الخوف من السقوط العظيم للبلد كبير جدا، خصوصا اذا استطاع «حزب الله» بفضل القانون الانتخابي الذي فُصّل على قياسه، تحقيق انتصار في الانتخابات النيابية المقبلة، بعد ثلاثة او أربعة اشهر من الآن. ليس موضوع النفايات (الزبالة) هو الموضوع الوحيد الذي يشكو منه لبنان. هناك ما هو اهمّ من ذلك بكثير. هناك ما تخفيه الزبالة. هناك رغبة في تطويع لبنان واللبنانيين واقناعهم بانّ لدى إيران، كنظام قام في العام 1979، نموذجا قابلا للتصدير وان ما بعد الانتخابات النيابية ليس كما قبلها.

بعد الانتخابات، سيكون على أي رئيس للوزراء أن ينسى دافوس وأن ينسى محيطه العربي الذي ينتمي إليه وأن ينسى معنى الانتماء إلى العالم. سيتوجّب على أي مسؤول لبناني تجاهل كلّ ما له علاقة بالعالم الحضاري من قريب او بعيد، بما في ذلك ظاهرة حديثة تتمثّل في حنين الايرانيين هذه الايّام إلى عهد الشاه وأفراد أسرته… على الرغم من مرور 39 عاما على قيام النظام الجديد في إيران!

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها