الثلاثاء ٣١ كانون الأول ٢٠١٩ - 09:27

المصدر: اللواء

2020 عام الفوضى العارمة

يأفل العام 2019 مخلفّاً وراءه تراكمات سياسية وجيوسياسية هامة لم تعدّ مقتصرة على سياقات الفوضى العارمة في ساحات العبث الإيراني في لبنان والعراق. إذ ترقى المغامرة التركية عبر الإتّفاق مع حكومة فايز السراج في ليبيا على ترسيم الحدود البحرية، وتوقيع الإتفاقية العسكرية التي تسمح لتركيا بإرسال وحدات عسكرية الى ليبيا، الى مستوى المفاجأة الاستراتيجية.
يختلط مشروع ولاية الفقيه الذي تسبب بتحويل العراق ولبنان الى دولتين فاشلتين، على المستوى الإقتصادي وعلى مستوى العجز عن تشكيل السلطة، بالنهوض الأمبراطوري التركي العابر للبحر المتوسط عبر ترسيم المناطق الاقتصادية لكلّ من ليبيا وتركيا، واقتطاع مساحات هائلة من حقوق كل من مصر وقبرص واليونان ومحاولة فرض تركيا كممر إلزامي لتزويد أوروبا بالطاقة. هذا إلى جانب الدخول كلاعب في الصراع المسلّح الدائر في ليبيا وتهديد الأمن الإقليمي العربي واستقرار تزويد أوروبا بالطاقة. تضاف ليبيا وحوض المتوسط الجنوبي الى ساحات العبث وتصفية الحسابات الإقليمية والدوليّة، فيما يستمر لبنان والعراق ساحتين لصدام أميركي إيراني عبر ما تبقّى من إرادات وبنى وطنية في الدولتين، ودائماً تحت سقف الشروط الأميركية التي فضّلت اعتماد العقوبات الإقتصادية كاستراتيجية وحيدة للمنازلة.
حوّلت ضبابية الاستراتيجية الأميركية وتقاطعاتها مع المصالح الروسية الطموحات التوسّعيّة التركية الى عبث يهدد بشكل جدي إستقرار وإقتصاد دول وشعوب المنطقة. ففي حين تُبدي الولايات المتّحدة قلقها من التدخّل التركي في ليبيا، تصلّ طلائع المقاتلين السوريين الذين تستقدمهم تركيا الى طرابلس للإنضمام الى مقاتلي حكومة فايز السراج، ويستمر السباق لحسم الأمور ميدانياً، قبيل انعقاد مؤتمر برلين حول ليبيا في فبراير/شباط المقبل. ففيما تستعجل تركيا إقرار الاتفاقية العسكرية في البرلمان لإرسال قوات عسكرية لدعم صمود حكومة الوفاق الوطني، تسابق الأطراف العربية والأوروبية الداعمة للواء خليفة حفتر الزمن من أجل حسم معركة طرابلس، لمنع حضور السراج ذلك الإجتماع الدولي واكتسابه المزيد من الشرعيّة الدولية. أما في سوريا فيعبّر التذبذب في سير العمليات العسكرية التي تخوضها قوات النظام المدعومة من روسيا في إدلب لطرد فصائل المعارضة، والإصرار التركي على الإحتفاظ بالمواقع التي تمّ تثبيتها في إتفاقات سوتشي، والتدخل الأميركي  لوقف تقدّم قوات النظام السوري عن عدم بلوغ صيغة نهائية بضمانة روسية لخارطة النفوذ في غرب سوريا، على غرار ما تمّ الإتّفاق عليه في شمال وشمال شرق سوريا بعد إخراج قوات سوريا الديمقراطية. هذا في الوقت الذي تستمر فيه الطائرات الأميركية بتصفية حساباتها مع أذرع إيران العسكرية بقصف مواقع حزب الله العراقي، على جانبيّ الحدود السورية العراقية موقعة عشرات القتلى في صفوفهم بعد قصف طاول قاعدة (k1) في كركوك والتسبّب بمقتل مدني اميركي يعمل في القاعدة.
أما في العراق ولبنان المنتفضيّن على فساد السلطة السياسية، فأوجه الشبه متعدّدة. ولكن لا بدّ من الاعتراف بما قدّمته الرئاسة العراقية بشخص الرئيس برهم صالح من تمردٍ على قوى الأمر الواقع، ورفض تسميّة رئيس حكومة تفرضه طهران ولا يقبل به المتظاهرون، بالرغم من تهديدات عديدة تلقاها من قادة الميليشيات، والتهديد بالإستقالة بالرغم من اتّهامه من قِبل الكتل النيابية الموالية لطهران بخرق الدستور. يقابل ذلك في لبنان موجة رفض عارمة لرئيس الحكومة المكلّف وللتركيبات الحكومية التي يتمّ تسريبها، مرشحة للتعاظم مع انضمام جمهور عريض من الأحزاب التي ترفض المشاركة في الحكومة. إنّ أطراف السلطة الذين فَرضوا الرئيس المكلّف لن يستطيعوا استدراج من اتّخذ قراراً بالبقاء خارج الحكومة للإنضواء تحت شعارات جَمع المكونات السياسية وعدم استثناء أحد، فالثقة معدومة بوقف الإستئثار بالقرارات الحكومية وتجاوز الدستور، ولا أحد يريد الدخول في شراكة محكومة بالفشل. ثم ليس هناك من  فرق بين تشكيل الحكومة من عدمه، فالتسوية التي بني عليها  انتخاب العماد ميشال عون سقطت الى غير رجعة، ولن يقبل أي من السياسيين دفع أثمان إضافية بالإنضمام إلى حكم فقد مصداقيته وأُسقط في الشارع.
تميل المرحلة المقبلة في بيروت للتماهي بالنموذج العراقي مع ارتفاع منسوب اليأس والتململ وانقطاع سبل العمل وارتفاع كلفة المعيشة. ربما سيكون من الوهم التصوّر أنّ السلطة الحاكمة بما فيها قوى الأمر الواقع ستقبل بالهزيمة لتتحوّل الى سلطة دستورية، حتى لو كانت أكثر إحساساً بالمسؤولية وأكثر استعداداً للإستماع الى مستشارين أقل جهلاً.
إنّ السير في عدم الإستجابة لمطالب الثورة، التي وإن بدت واسعة وعديمة الشكل، لكنّها في الوقت عينه لا تقاوم، بل ستٌبعثر منظومة الدولة وتحّول ما تبقى من سلطتها إلى مجموعة متناثرة من العناصر التي لا يمكن الركون إليها: حكومة غير قادرة على العمل، ومجلس نيابي لا حول له ولا طول، وأعداد من إدارات ومحميات مطوّقة بقوى أمنية على غرار ما يحصل في محيط منزل الرئيس المكلّف، ومواطنون منقسمون بين معتدلين وآخرين يندفعون الى ما يتجاوز أهداف المعتدلين لبلوغ ثورتهم الإجتماعية الخاصة، فلا شيء يعادل عندهم إسقاط الرموز. هؤلاء سيشكّلون في ظلّ الفوضى العارمة القوة الضاربة للثورة أي جمهرة المشاغبين والمتظاهرين الذين سيفرضون نموذجاً إجتماعياً غامض المعالم، يجمع بين العداء للأثرياء ولكلّ المنتمين الى دائرة السلطة، مع تطبيق ديمقراطية محليّة ومباشرة تقوم على المساواة الصارمة والكثير من الحرية.
تشكّل بقعة العمليات من شمال أفريقيا حتى العراق مروراً بحوض البحر الابيض المتوسط وحدة جيوسياسية متكاملة، تجمع كل عناصر التوتر والتفجير، فهي منطقة فراغ أمني في ظلّ سقوط النظام العربي وانحسار الدور الأوروبي ونهوض الأمبراطوريات، وإصرار أميركي على اعتماد استراتيجية تعميم الفوضى المنضبطة. الإستحقاق الأول الماثل في الأفق والذي ربما يشكّل نقطة تحوّل يبنى عليها هو الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر2020، أما الإستحقاق الثاني فهو الإنتخابات الرئاسية السورية في حزيران 2021، والتي ستشكّل إنعكاساً حتميّاً للإستحقاق الأميركي الذي سيمنح الإدارة الأميركية متّسعاً من الوقت والمناورة لفرض التسويّة في سوريا. وفي مسار الإنتظار لهذين الإستحقاقين سيقدّم العام 2020 نماذج إستثنائية من الفوضى العارمة.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها