منى فياض

الأثنين ١٠ شباط ٢٠٢٥ - 11:13

المصدر: صوت لبنان

العقل الجمعي للطوائف اللبنانية وتأثير حزب الله

هل من المناسب ان نقول مبروك للبنانيين بأنهم حصلوا على الحق البديهي، بأن يكون لديهم رئيساً وحكومة كسائر بلدان العالم؟
فما الذي يسمح بمثل هذه الممارسات التي أوصلتنا الى درجة انهيار الدولة التام؟
انه العقل الجمعي الذي سأحاول ان اظهر آليات عمله.
في لبنان، لا تزال قيادات الطوائف، وبواسطة ممارساتها المصلحية الضيقة، تغذّي سيطرة العقل الجمعي على معظم تابعيهم، او زبائنهم او محازبيهم. وفي هذا المجال، يمكن تبني شعار “كلن يعني كلن” لتفسير الانهيار التام للدولة. ومن سيتهمني بالافتراء على المعارضة، ليستمع الى مقابلة وزيرة العدل “ماري كلود نجم”، على محطة MTV مؤخراً، التي اوضحت تواطؤ المجلس النيابي بكامل أعضائه في التسبب بهذا الانهيار.
فما هو العقل الجمعي؟
يفرق دوركهايم، بين التضامن الآلي لمجتمع ما، والمرتبط بتصورات الافراد والمجموعات؛ وبين التضامن العضوي، والمرتبط بالتصورات الموجودة في اذهان الناس في المجتمعات الحديثة، حيث تتنوع الادوار ويعتمد الافراد على بعضهم، لأنهم يتبادلون الاعتماد الاقتصادي والاجتماعي بين مختلف طوائفهم.
هذا المفهوم غير صالح للتعميم زمانيا ومكانيا وغير ثابت. فالعقل الجمعي والفردي مفهومان مرنان يتأثران بالعوامل التاريخية التي انتجتهما. والدليل ان العقل الجمعي الاوروبي لم يعد هو نفسه عقل القرون الوسطى، كما تغيّر العقل الجمعي الشيعي خلال 40 عاماً من هيمنة الحزب.
من مواصفات العقل الجمعي انه ينساق للغرائز، فلا يشعر بالاطمئنان، ولو الشكلي، الا بالانسياق خلف الجماعة، فيواليها ويلتزم رؤاها دون تحسب للعواقب الممكنة.
وهذا ينعكس على هوية المجتمعات، التي تتحدد عبر التضامنين العضوي والميكانيكي. وهذا واقع المجتمع اللبناني المنقسم بين تضامن ميكانيكي (طوائف مغلقة) وتضامن عضوي ضعيف، للعجز التاريخي عن بناء هوية وطنية جامعة تسمح بغلبة التضامن العضوي.
توضح رؤية ومفهوم غوستاف لوبون عن الحشود، هذا الموضوع. فيفسر لماذا تتصرف الجماهير بطريقة عاطفية، غير عقلانية، ويمكن التلاعب بها بسهولة عبر الخطاب العاطفي والرموز الدينية والقومية التي تلجأ اليها الطوائف. وهذا ما تمارسه زعامات الطوائف في لبنان، وأكثر من يبرع فيها حزب الله، حيث تُستثار العواطف الجماعية بسهولة في الأزمات؛ فقط لأنها تشعر بالانتماء الى كيان ضخم تصعب مساءلته او عقابه، عند ارتكاب جرائم وسلوكيات مدانة. لأن القانون ذاته يصبح ضعيفاً امام هذه الحشود. وحينها يصبح التوحد مع الجموع الهائجة اقرب إلى حركة ” القطيع “.
ما يحرك سلوك الجموع الطائفية إذن، عاملان اساسيان، الغريزة والولاء. فالجماعات الطائفية اللبنانية، تتبع القادة الذين يعززون هذه الغرائز. من هنا ارتباطها بالزعامات (نصر الله، جنبلاط، جعجع، الحريري، ناهيك عن عون وباسيل)، النابع من غريزتيّ الانتماء والخوف من الآخر.
لكن حزب الله أكثر من نجح إحداث التحولات التي طرأت على المجتمع الشيعي في لبنان، وعون على المسيحيين.
سأركز اليوم على تحليل العقل الجمعي في بيئة حزب الله قبل نشوئه وبعده؛ لأن سلاحه سمح بهيمنته ، ليس على بيئته فحسب، بل على الطوائف بأكملها.
العقل الجمعي قبل حزب الله (قبل 40 عامًا):
قبل الثمانينيات، كان المجتمع الشيعي في لبنان يعتمد على الولاءات العائلية والعشائرية، وكان التدين تديناً تقليدياً يرتبط بالمراجع الدينية المتنوعة، وليس بمفهوم ولاية الفقيه كما هي الحال اليوم. كان يسود تضامن آلي داخل المجتمع الشيعي، حيث كان الأفراد متحدين بعلاقات دم وقيم وثقافة تقليديان. ولم يكن هناك تنظيم سياسي وعسكري موحد يفرض عليهم نمطًا موحدًا من التفكير والسلوك. الهيمنة الفكرية والدينية كانت للنجف العراقي، إضافة الى تأثير الزعامات المحلية، خصوصاً موسى الصدر، الذي ركّز على الحقوق الاجتماعية للطائفة دون أيديولوجيا عسكرية توسعية.
مع الثورة الايرانية وظهور الحزب في الثمانينيات، احتكر الساحة، وأحدث تحولا كبيرا في الوعي الجمعي للمجتمع الشيعي. فتأثر العقل الجمعي بعقيدة ولاية الفقيه، التي تربط بالقرار السياسي والديني للمرشد الأعلى في إيران.
نقل الحزب المجتمع الشيعي من تضامن آلي (علاقات قبلية ودينية تقليدية) إلى تضامن عضوي – آلي خاص. فأصبح الأفراد يعتمدون على الحزب في كل مناحي حياتهم (الأمن والاقتصاد والهوية الدينية، وحتى الأيديولوجيا السياسية).
تمت السيطرة على العقل الجمعي الشيعي بعدة آليات:
الطقوس الجماعية: أطّر حزب الله حياة الشيعة حول: الطقوس الدينية والمراسم، مثل مجالس عاشوراء (بنسختها الفارسية)، وكبّلهم بالمزيد من المواعيد الدينية المختلقة احيانا، كما أكثر الَمسِيرات والعرّاضات. فرض التعبئة الإعلامية والتربوية التي تعزز فكرة التضحية والاستشهاد، مما يعيد تشكيل العقل الجمعي الشيعي باستمرار. كما استخدم البنى الخطابية، والسرديات التاريخية مثل المظلومية الحسينية والمظلومية الملّية، وربط قضيته بالحرب ضد إسرائيل. مما يجعل أي اعتراض داخلي يبدو وكأنه خيانة للمقدس.
كل ذلك اعاد تشكيل الهوية: بفرضه الثقافة السياسية الجديدة، فجعل الطائفة الشيعية مرتبطة بمشروع أيديولوجي يتجاوز لبنان، وهو محور إيران – المقاومة، مما أدى إلى تغيير طبيعة الولاءات داخل الطائفة نفسها.
العلاقات الاجتماعية والاقتصادية فرضت الحزب مزوِّدًا رئيسيًا للخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية والترفيهية، مما عزز اعتمادية الأفراد عليه، فأصبح الخروج عن طاعته مكلفًا اقتصاديًا واجتماعيًا وحتى نفسياً.
لماذا ينفذ الأفراد أوامر الحزب ولو كانت على حساب حياتهم؟
وفقًا لدوركهايم، عندما يصبح الفرد جزءًا من وعي جمعي قوي جدًا، فإن هويته الفردية تذوب داخله، فيصبح مستعدًا للتضحية بنفسه لأن ذلك يُشعره بالانتماء الى الجماعة المطمئنة.
ولأنه أعاد انتاج العقل الجمعي عبر اللغة والرموز، وهذا واضح في خطابات نصر الله التي كانت تحوّل الموت إلى نصر معنوي والعدو (حتى الداخلي) إلى شيطان مطلق.
ولأن الأفراد الشيعة لا يرون أنفسهم كضحايا، بل كأبطال في قصة أكبر، وهي قصة المقاومة والمظلومية والانتصار الإلهي. وهذا أعادد تشكيل تصورهم للمخاطر والتضحيات.
وسنحاول استكمال الموضوع على مستوى الطوائف اللبنانية ككل.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها