فنية
الأربعاء ٥ آذار ٢٠٢٥ - 18:22

المصدر: المدن

“لبنان بغِنّية” في “البستان”: الجمهور أيضاً غنّى…وبكى

تحولت حفلتا “لبنان بغنّية” في مهرجان “البستان” الدولي، إلى فعل تمرد “مأهول” بإنتصار الكلمة والنغم الأصيل. أراده المايسترو لبنان بعلبكي وعبّرت عنه حنجرة المطربة سمية بعلبكي المرتقية إلى صحوة ونشوة وصلاة في وجه الموت والدمار في الجنوب المنكوب، لا سيما في منزل عائلة بعلبكي المسكون باللون وريشة والدهما الرسام التشكيلي الراحل عبد الحميد بعلبكي(*) والحنين والأحاسيس القوية في جرن ذاكرة الطفولة، والذي فجرته إسرائيل بوحشية حاقدة في بلدة العديسة الجنوبية.
 
حملت الحفلة رسالة سوّرت قاعة المهرجان نفسه، أن ثمة “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، حتى لو دمعت عينا المطربة سمية بعلبكي وهي تغني “ع اسمك غنيت”، و”خدني زرعني بأرض لبنان” للسيدة فيروز، وبدت كأنها تحلم بالعودة إلى كنف البيت المدمر، إلى تلك الذكريات المدفونة تحت الركام.

دخلت سمية بعلبكي بفستان أصفر اللون، كشمس الجنوب الساطعة، تبتسم بخجل، منطلقة بأغنية “بالمجد معمرها” لوديع الصافي وهي تؤدي بصوتها الأصيل تلك الكلمات المفعمة بالإيجابية، علها تشفي روحها وأرواحنا من ألم واقعنا المأسوي.

قاد المايسترو لبنان بعلبكي، الحفلة، كأنه يضمد جراح الوطن الموجوع، ملوحاً بعصاه وبيديه المنسجمتين لفرقة موسيقية من عازفين وعازفات، فسجل علامة فارقة في الحفلة كلها، لا سيما في إدراج مقطوعتين “شرقيتي الهوى”، الأولى “آثار على الرمال” لزياد الرحباني، والثانية “رقصة العروس” لمارسيل خليفة.
في موسيقى “آثار على الرمال”، تفاعلت النوتات في الصالة وسط عزف الكمنجات على يسار المسرح، كأنها تتصفح يوميات من حياتنا. فاحت رائحة تراب هذه الرمال، لتذكّرنا بالجذور، بالجنوب المقهور، بلبنان المأزوم، بالقدرة على الصمود من خلال الموسيقى، وما أجملها!

“رقصة العروس” لمارسيل خليفة تنذر بالهذيان، بالحلم، بخطى ثابتة وسط الضباب، هذا الضباب المتعالي على الصعاب.

تخلّلت الحفلة إطلالة مميزة للفنان جورج خباز، تلا فيها قصيدة تضمنت كلمات من نتاج هامات موسيقية ثقافية من تاريخنا العريق، مثل فيروز، عاصي ومنصور الرحباني، وبعض أعمالهم المسرحية، نصري شمس الدين، صباح، وملحم بركات وسواهم… علّه يجمع فيها صفحات من تاريخ مضيء لن يتكرر في لبنان وترتطم بواقعنا الصعب.

شارك منشدون ومنشدات من جوقة جامعة سيدة اللويزة، التي يقودها الأب خليل رحمة ببُعدها الروحي الإحترافي، فغنوا “للفجر الجديد” من خلال محطات عديدة، منها “بلدي حبيبي” لزكي ناصيف،” و”ردني إلى بلادي” من كلمات الشاعر سعيد عقل وألحان الأخوين الرحباني، وصولاً إلى أغنية لماجدة الرومي بأصوات الكورس نحبها كثيراً، الا وهي “عم بحلمك يا حلم يا لبنان”.

أنشد الكورس مخزوناً غنياً لرعيل غنى للبنان بسخاء، على غرار “بلدي حبيبي” لزكي ناصيف، و”ردني الى بلادي” للرحابنة وصولاً إلى لوحة تراثية من الميجانا والدلعونا و”يا غزيل يابو الهيبة” وسواها، وسط غناء الجمهور وتفاعلهم مع كل أغنية، وقد غلب عليهم التأثر الشديد فيما غنى مع الكورس “بحبك يا لبنان” لفيروز. علا التصفيق عالياً والدموع في العيون. عبّرنا كلنا عن حبنا لبلدنا الموجوع علنا نجد أفقاً لفجر آت. ثم عاد المايسترو لبنان البعلبكي إلى المسرح، وغنينا مع الجوقة والأوركسترا أغنية “راجع بأصوات البلابل” وسط حماسة حضور كبير حالمٍ بوطن.
عالَم عبد الحميد بعلبكي
بالتزامن يعيد معرض تكريمي في بيروت إحياء عالم الفنان اللبناني الراحل عبد الحميد بعلبكي (1940-2013) الذي دمّرت الحرب الأخيرة في لبنان منزله وقسماً من نتاجه التشكيلي في قريته العديسة. ويسترجع هذا المعرض، المستمر حتى 28 ايلول/سبتمبر المقبل بمبادرة من متحف سرسق، مسيرة بعلبكي الذي رسم بواقعية تعبيرية مآسي الحرب وقضايا الإنسان وعائلته وبلدته الجنوبية التي أحبها. ورأى نجل الرسام الراحل، الفنان أسامة بعلبكي، أن المعرض تحية إلى والده الذي اشتهر في سبعينات القرن الماضي “ومن خلاله للإرث المنتهك ولكل الذين تعرضوا إلى خسائر في الجنوب”.

وتوزعت في صالتين من الطبقة الأولى لمتحف سرسق، ثلاث جداريات و50 لوحة زيتية، ومجموعة من 20 رسماً ورقياً بعنوان “الأشجار الميتة” التي ميّزت عمل الراحل بعلبكي في التسعينات، وهي أعمال اختيرت من مجموعات خاصة.

ويُعرض شريط فيديو يضم مقابلات لمقربين منه. فيما تستريح مجموعة من الكتب الشعرية والتراثية التي ألّفها الى جانب شاشة صغيرة تتوالى فيها صور فوتوغرافية من أرشيفه الخاص وقصاصات لمقابلات صحافية أجريت معه. وعلى رفّ اخر مجموعة من الكتب القديمة والنادرة التي كان يجمعها.
وتتوزع الوجوه المفجوعة والجثث الممددة والبيوت المدمرة والأشجار المحروقة وطائر البوم الذي ينذر بالشؤم، في فضاء جدارية عنوانها “الحرب”، رسمها بعلبكي الأب العام 1977 في المرحلة الأولى من الحرب اللبنانية. وأطلق على هذه اللوحة اسم “غرنيكا الحرب الأهلية” تيمناً بلوحة بيكاسو “غرنيكا” المستوحاة من الحرب الأهلية الإسبانية. وهذه اللوحة “تنقلت كأنها كائن حي هجرته الحرب”، رغبة من بعلبكي في الحفاظ عليها، على ما روى نجله أسامة، مضيفاً: “كان ينقّلها بين أصدقائه، وفي العام 1993 أعدناها الى بيتنا في بيروت”، قبل أن تقتنيها مجموعة مصرفية كبيرة.

وبعد وفاة عبد الحميد بعلبكي عن 73 عاماً، نقلت العائلة الجزء الأكبر من لوحاته إلى بيروت. وسعى بعلبكي إلى أن يكون منزله أقرب إلى مركز فني وثقافي في المنطقة ويحتوي على الكثير من الأعمال الفنية ومكتبة ضخمة وتحف وأغراض قيمة، لكنه أصبح اليوم تلة ركام.