المصدر: المدن
أردوغان “الجديد”: عودة إلى ألف باء الاقتصاد
رغم فوزه بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسيّة، لم يكن بإمكان الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان تجاهل بعض المؤشّرات الخطرة في نتائج تلك الانتخابات، ومنها مثلًا تراجعه أمام مرشّح المعارضة في مدينتي إسطنبول وأنقرة، بعدما كان أردوغان قد تقدّم في الولايتين في دورة الانتخابات الرئاسيّة السابقة. في هذه النتائج، فهم أردوغان أن الأداء السيّىء في الاقتصاد، له ثمنه الشعبي في كبرى المدن التركيّة، التي ستقيس دائمًا مصالحها المباشرة بمعايير التضخّم ومعدلات البطالة ومستويات الأجور وغيرها، مهما نجح أردوغان في إدارة الملفّات الأخرى.
ويبدو أنّ أردوغان الذي يعد العدّة للانتخابات المحليّة عام 2024، بدأ بالتعامل ببراغماتيّة مستجدّة وناضجة مع الملف الاقتصادي، من خلال تركيبته الحكوميّة الجديدة، ولو أنّه تمسّك خلال حملته بشعارات وأدبيّات المرحلة السابقة. وأبرز التحوّلات في موقف أردوغان، برزت في اختياره لوزير الماليّة والخزانة الجديد، محمد شيمشك. مع الإشارة إلى أنّ أردوغان أعلن في عطلة نهاية الأسبوع المنصرمة عن تشكيلته الحكوميّة الجديدة، التي ضمّت 15 وجهًا جديدًا، من أصل 17 وزيرًا، بينما طغى على هذه التشكيلة الوزراء التكنوقراط، على حساب غياب الوجوه القياديّة الحزبيّة التقليديّة.
شيمشك: عودة إلى الواقعيّة في الاقتصاد
في أولى تصريحاته بعد اختياره وزيرًا في التشكيلة الحكوميّة، لم يترك شيمشك شكًا بوجهته أو أولويّاته: لم يعد أمام تركيا من خيار سوى العودة إلى الواقعيّة. والواقعيّة، لمن لم يفهم تلميحات شيمشك، هي الاتجاه المعاكس تمامًا للنهج غير التقليدي الذي اعتمده أردوغان، في إدارة الشأن النقدي والمالي، والذي قام على سحق معدّلات الفوائد إلى أقصى حدود، بدل رفعها حين يجب، للجم التضخّم والحد من تدهور سعر صرف العملة المحليّة. وهذه المقاربة النقديّة غير المألوفة، هي ما رفع معدلات التضخّم إلى 44% في شهر نيسان الماضي، بعدما لامست هذه المعدّلات حدود 85.5% في شهر تشرين الأوّل من العام 2022.
إذًا، شيمشك هو عنوان العودة إلى ألف باء الاقتصاد ومعادلاته البديهيّة: من يرغب بالحفاظ على عملته واستقرار الأسعار، يجب أن يستخدم أدوات السياسة النقديّة المألوفة، ومنها تعديل ورفع الفائدة حين يقتضي الأمر، من دون شعبويّات ولا شعارات مُحافظة مناهضة للفائدة، بوصفها “الربا” و”أمّ الشرور”.
وشيمشك ليس غريبًا عن تركيا وتورّطها بالشعبويات الخطابيّة التي أطاحت باستقرارها النقدي، وهو يعرف بالضبط عمّا يتكلّم حين يشير إلى ضرورة “العودة إلى الواقعيّة”. فالرجل ليس سوى وزير ماليّة تركيا ونائب رئيس حكومتها، بين عامي 2009 و2018، في حقبة حاول فيها ضبط معدّلات التضخّم بالأدوات التقليديّة، قبل أن تتوسّع صلاحيّات أردوغان بفعل التعديلات الدستوريّة الأخيرة. ومنذ ذلك الوقت، وبعد مغادرته منصبه، حرص شيمشك على تكرار انتقاداته للسياسات النقديّة التي انتهجها أردوغان على مرّ السنوات اللاحقة، والتي أدّت إلى غرق الليرة التركيّة بانهيارات متتالية.
ولأنّه أدرك ضرورة إبعاد السياسة النقديّة عن نظريّات رئيسه، لينجح في مهمّته، حرص شيمشك على اشتراط ضمان “استقلاليّة المصرف المركزي”، قبل العودة إلى وزارة الماليّة والخزانة. مع الإشارة إلى أنّ أردوغان عُرف خلال السنوات الماضية بتدخّلاته الدائمة بعمل المصرف المركزي، وضغطه المتكرّر لخفض معدّلات الفوائد بشكل معاكس لتوجّهات السوق، وهو ما أفضى إلى تكرار إقالة مسؤولي ومحافظي المصرف خلال السنوات الماضية، وصولًا إلى شطب بعض مناصب المصرف العليا بشكل تام.
هذه الخلفيّة العقلانيّة والبراغماتيّة، هي ما منح شيمشك صفة “صديق المستثمرين” منذ مغادرته حكومة أردوغان عام 2018، وهي ما يفسّر تفاؤل الأسواق بعودته إلى الحكومة الجديدة. والتفاؤل بعودته، أتى مصحوبًا بتشديد أردوغان خلال احتفالات فوزه على اتجاهه لحل مشكلة التضخّم وزيادة الأسعار، ما أوحى بأنّ أردوغان مستعد لتقديم بعض التنازلات لشيمشك لمعالجة هذه الأزمة، ولو على حساب التراجع عن سياسة سحق معدلات الفوائد التي تم اعتمادها خلال السنوات الماضية. مع الإشارة إلى أنّ أردوغان يتطلّع أيضًا إلى الاستفادة من مصداقيّة شيمشك وسمعته العالميّة، لطمأنة الأسواق خلال الفترة المقبلة.
طاقم وزاري قوي
منح أردوغان وزارة الخارجيّة لوزير المخابرات هاكان فيدان، الذي لعب دورًا كبيرًا في صياغة السياسة الخارجيّة لتركيا خلال السنوات الماضية، كما تسلّم ملفّات ذات طابع أمني في دول مثل ليبيا وسوريا. ورغم ابتعاده عن التصريحات والمقابلات واللقاءات العلنيّة، إلا أنّ فيدان يملك ما يكفي من خبرة في العلاقات الدوليّة لإدارة العلاقات الخارجيّة للحكومة الجديدة.
ومن المعلوم أنّ الكثير من ملفّات السياسة الخارجيّة ترتبط بالأدوار الجيوسياسيّة والاقتصاديّة التي يحاول أردوغان لعبها على المستوى الدولي. فالعلاقة مع بوتين، في ظلّ غزوه لأوكرانيا وحرب أسواق الطاقة، لا تنفصل عن سعي أردوغان لتحويل تركيا إلى مركز إقليمي لإعادة توزيع مصادر الطاقة باتجاه السوق الأوروبي. والدعم المفتوح لأذربيجان في حربها مع أرمينيا، لا يتربط بعوامل التقارب العرقي والتحالف التاريخي فقط، بل يرتبط أيضًا باهتمام تركيا بشرق قزوين كمساحة نفوذ، يمكن أن تتصل من خلالها بأسواق وسط آسيا، من دون الاعتماد على جارتها إيران. وعلى هذا النحو، سيبرز دور فيدان في العديد من الملفّات الأخرى، التي يتصل فيها الجانبان الأمني والاستراتيجي بالنزاع على النفوذ الاقتصادي وسلاسل إمداد الطاقة.
لمنصب وزير الدفاع، اختار أردوغان قائد الأركان يشار غولر، الذي يفترض أن يثابر على تطوير الصناعات العسكريّة، التي أعطاها أردوغان الكثير من الاهتمام خلال سنوات حكمه. ومن بين الوزراء الـ17 الذين تألّفت منهم الحكومة، لم يُبقِ أردوغان من الفريق الحكومي القديم إلّا على وزيري السياحة والصحّة، محمد نوري أرصوي وفخر الدين كوجا، بعدما تمكنا من تحقيق إنجازات كبيرة في ملفّات الوزارتين، من دون التورّط في السجالات السياسيّة اليوميّة. أمّا سائر وزراء الحكومة السابقة، ففضّل أردوغان تسليمهم مراكز أساسيّة في اللجان البرلمانيّة، بعدما ترشّحوا خلال الانتخابات على قوائم التحالف الحاكم.
وبشكل عام، كان من الواضح أنّ أردوغان أعطى الكثير من الاهتمام لاختيار وزراء التركيبة الحكوميّة الجديدة على أساس التخصّص أولًا، بالإضافة إلى الثقة التي يمكن أن يحصلوا عليها من جانب الرأي العام ثانيًا. أمّا اختيار جودت يلماز لمنصب نائب الرئيس في التشكيلة الحكوميّة، فجاء كإشارة إضافيّة للأهميّة التي سيعطيها أردوغان للملف الاقتصادي خلال المرحلة المقبلة، خصوصًا أن يلماز عُرف بالأدوار التي لعبها سابقًا في المناصب الحكوميّة الخاصّة بمشاريع التنمية والتخطيط. وهذا ما يدل مجددًا على أنّ أردوغان أدرك أهميّة التعامل مع الأزمة الاقتصاديّة كعامل حاسم، إذا أراد حزب الحريّة والعدالة الاحتفاظ بالحكم في المستقبل.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها