المصدر: المدن
أزمة المصارف الغربية: الودائع تتآكل ونزيف الخسائر مستمر
مع استمرار عاصفة الزيادات في فوائد الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، تستمرّ حتّى اللحظة الظروف المتأزّمة التي تمرّ بها القطاعات المصرفيّة العالميّة. وهذا ما يشير إلى أنّ ما جرى مع كريدي سويس في شهر آذار الماضي، قد لا يكون آخر حلقة في مسلسل الانهيارات المصرفيّة، التي بدأت في الولايات المتحدة وامتدّت إلى أوروبا. مع الإشارة إلى أنّ سويسرا لم تنته حتّى اللحظة من التعامل مع تداعيات انهيار المصرف، وآثار صفقة الاستحواذ عليه. ما يطرح الأسئلة أيضًا عن متانة الأدوات التي تمتلكها اليوم المصارف الغربيّة، عند التعامل مع أزمات من هذا النوع.
تآكل الودائع الأميركيّة مستمر
أظهرت الأرقام الأخيرة التي نشرها يوم أمس الإثنين الاحتياطي الفيدرالي الأميركي استمرار التآكل في حجم ودائع المصارف الأميركيّة، التي انخفضت بحدود 76.2 مليار دولار في الأسبوع الثاني من شهر نيسان وحده، ليستقر حجم هذه الودائع عند حدود 17.38 ترليون دولار. وجاءت هذه الأرقام ضمن تقرير “أتش. 8″، الصادر عن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، والذي يُعد أبرز التقارير التي تعتمد عليها الدراسات الماليّة لقياس ملاءة وسيولة القطاع المالي الأميركي وحجم مخاطره. ويلخّص هذا التقرير في العادة الميزانيّة المجمّعة لكافّة المصارف الأميركيّة، بجميع عناصر مطلوباتها وموجوداتها، على نحو أسبوعي، وهو ما يعطي خلاصاته أهميّة استثنائيّة.
وحسب الأرقام، طال الانخفاض في حجم الودائع ميزانيّات مجموعة المصارف 25 الأكبر في السوق الأميركي، كما طال في الوقت نفسه المصارف الأصغر حجمًا، ما يشير إلى أنّ موجة السحوبات لم تقتصر على المصارف الصغيرة وحدها.
وقبل أسبوع من هذا التقرير، أشارت تقديرات ماليّة إلى أنّ الودائع في ثلاثة مصارف أميركيّة، هي جي. بي. مورغان وويلز فارغو وبنك أوف أميركا قد تراجعت بقيمة 521 مليار دولار، مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق، وهو ما مثّل أكبر انخفاض من هذا النوع منذ عقد من الزمن. كما أظهرت الأرقام أنّ المصارف الثلاثة خسرت 61 مليار دولار من هذه القيمة خلال الربع الأوّل من العام الحالي، أي لغاية شهر آذار الماضي.
في واقع الأمر، يمكن ربط استمرار الاستنزاف في حجم الودائع، حتّى هذه اللحظة، بعاملين متوازيين. العامل الأوّل، هو استمرار مفعول زيادات الفوائد التي قام بها الاحتياطي الفيدرالي، والتي كان آخرها في 23 آذار الماضي. وكانت تلك الزيادة، التي رفعت الحد الأعلى لنطاق الفوائد المستهدفة إلى 5%، الزيادة التاسعة التي يقوم بها الاحتياطي الفيدرالي في الفوائد منذ شهر آذار 2022، ما رفع الفوائد الأميركيّة المستهدفة إلى أعلى مستوى منذ العام 2007.
وبالنسبة للمصارف الأميركيّة، عادة ما تؤدّي هذه الزيادات في الفوائد إلى زيادة جاذبيّة أسواق السندات وفوائدها، مقارنة بالودائع المصرفيّة والفوائد التي تقدّمها. وهذا تحديدًا ما يفسّر العلاقة بين ارتفاع معدلات الفوائد، وزيادة ضغط السحوبات على الودائع المصرفيّة.
أمّا العامل الثاني، الذي مازال يدفع أيضًا باتجاه تآكل قيمة الودائع المصرفيّة، فهو استمرار قلق المودعين تجاه مستقبل المصارف الأميركيّة والمخاطر المحيطة بها. وهنا بالتحديد، تلقّف المودعون خبر الزيادة الأخيرة في الفوائد التي قام بها الاحتياطي الفيدرالي في شهر آذار، كما تلقّفوا جميع التوقّعات التي أشارت إلى أنّ الاحتياطي الفيدرالي يتجه إلى زيادات مقبلة في الفوائد المستهدفة من قبله، للتمكّن من خفض معدلات التضخّم بمستويات إضافيّة. وكما هو معلوم، لن تعني جميع هذه التطوّرات سوى زيادة الضغوط على المصارف الأميركيّة، وهو ما يثير قلق أصحاب الودائع حتّى اللحظة.
نتائج تآكل الودائع خطرة جدًا
في جميع الحالات، لن تقتصر تداعيات ما يجري على أزمة السيولة التي قد تواجه بعض المصارف الأميركيّة، نتيجة استمرار النزيف في حجم الودائع الموجودة لديها. فضغط السحوبات، من شأنه أن يفرض على بعض هذه المصارف بيع جزء من محافظ السندات التي تملكها، والتي انخفضت أسعارها في السوق إلى حد بعيد نتيجة ارتفاع الفوائد في السوق. وهذا تحديدًا ما سيكبّد هذه المصارف خسائر، نتيجة الفارق بين القيمة الإسميّة لهذه السندات، والتي يفترض أن يتم سدادها عند استحقاقها، وقيمة تداولها الحاليّة في السوق. وهذا السيناريو، هو تحديدًا ما راكم الخسائر في ميزانيّة مصرف سيليكون فالي، قبل أن تؤدّي عاصفة السحوبات إلى إقفاله وتصفيته.
باختصار، ما حصل مع مصرف سيليكون فالي مرشّح للتكرار مع مصارف أميركيّة أخرى، طالما أن نوعيّة الضغوط ذاتها ما زالت قائمة، بدلالة استمرار السحوبات من المصارف واستمرار معدلات الفوائد في الارتفاع.
وفي الوقت الراهن، تشير أرقام “بلومبيرغ” إلى أنّ ميزانيّات المصارف الأميركيّة تحتوي على ما يقارب 620 مليار دولار من الخسائر غير المحققة بعد، والمتمثّلة بالفارق بين قيمة محافظ السندات الإسميّة المسجّلة على الدفاتر، وقيمة هذه السندات المنخفضة حاليًا في السوق. وتحقيق هذه الخسارة، سيكون ممكنًا فور اضطرار المصارف الأميركيّة لبيع هذه السندات، بالقيمة السوقيّة المنخفضة حاليًا، نتيجة الضغط على السيولة والسحوبات، بدل تحصيل قيمة السندات الإسميّة الأعلى عند استحقاقها. وهذه الخسارة غير المحقّقة بعد، هي قنبلة الأنظمة المصرفيّة الغربيّة الموقوتة.
معالجات أزمة كريدي سويس المعقدّة
بخلاف ما اعتقد كثيرون، لم تُطوَ صفحة أزمة مصرف كريدي سويس، بمجرّد عقد صفقة الاستحواذ عليه من قبل مصرف UBS. فحسب الخطط الأوّليّة، التي قدّمها مصرف UBS، من المفترض أن يستغرق دمج المصرفي فترة زمنيّة طويلة، قد تصل إلى حدود الأربع سنوات. وكان من اللافت إشارة المصرف إلى أنّ هناك مخاطر كبيرة تتصل بعمليّة الدمج المنتظرة، بمعزل عن الدعم الحكومي الذي تم تقديمه لصفقة الاستحواذ. ومن الواضح أن المخاطر التي يتحدّث عنها مصرف UBS تتصل بخسائر غير محقّقة، متراكمة في ميزانيّة كريدي سويس، وخصوصًا بعد مرور كريدي سويس بسنوات طويلة من الفشل الإداري والخسائر والفضائح وتراكم المخاطر المتصلة ببعض استثمارات المصرف.
وتجدر الإشارة إلى أنّ أرقام كريدي سويس، التي تم الكشف عنها يوم أمس، أظهرت أن المصرف خسر ما يقارب 69 مليار دولار من سيولته خلال الربع الأوّل من هذا العام، وهو ما يؤكّد حديث مصرف UBS عن حجم المخاطر الكبيرة التي يتحمّلها اليوم، جرّاء عمليّة الاستحواذ على كريدي سويس. كما تؤكّد هذه الأرقام التحديات الكبيرة التي تواجه UBS، للاحتفاظ بعملاء كريدي سويس الرئيسيين، بعد الاستحواذ على المصرف. وكل هذا المشهد، يؤشّر إلى أنّ ملف كريدي سويس لن يُقفل قريبًا، بانتظار تبيان تداعيات كل هذه التطوّرات على ملاءة UBS، أكبر المصارف السويسريّة.
ومن المعلوم أنّ صفقة الاستحواذ جرت بضغط من السلطات السويسريّة، التي حاولت –بهذه الطريقة- تطويق أزمة كريدي سويس قبل تحوّلها إلى انهيار مصرفي. وهذا ما يفسّر تورّط UBS بهذه الصفقة الخطرة، من دون أن يتسنّى للمساهمين في المصرف حتّى مناقشة الصفقة أو التصويت عليها.
من المستبعد أن تخرج القطاعات المصرفيّة الغربيّة من دائرة الخطر قريبًا، طالما أن المصارف المركزيّة ما زالت تتجه نحو سياسات التشديد النقدي ورفع الفوائد. ولهذا السبب، وكما وصف الأمر صندوق النقد الدولي مؤخّرًا، ستظل الأسواق حاليًّا “تمتحن” نقاط ضعف الأنظمة الماليّة العالميّة، عند حصول كل أزمة مصرفيّة شبيهة بأزمتي كريدي سويس وسيليكون فالي. وهذا الامتحان، هو ما سيحدد كفاءة ونجاح الأدوات المتاحة بيد المصارف المركزيّة، لتطويق هذه الأزمات المصرفيّة قبل تحوّلها إلى انهيارات ماليّة شاملة.
فكما هو معلوم، تمتلئ أسواق المال العالميّة اليوم بالمخاطر ومكامن الضعف والهشاشة، والجميع سيتساءل عن الشرارة التي قد تشعل الأزمة الماليّة الشاملة المقبلة. وأقصى ما يتمنّاه كل مصرف مركزي في كل دولة غربيّة اليوم، هو أن لا تبدأ هذه الشرارة من بلده.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها