المصدر: المدن
أزمة رواتب القطاع العام: ثمن تجاهل الخسائر المجتمعيّة
منذ بداية الانهيار، قبل أكثر من ثلاث سنوات، دخلت البلاد في دهاليز أحجيات توزيع خسائر القطاع المصرفي، أي تلك التي تُعنى بفجوة الفارق بين إلتزامات المصارف للمودعين بالدولار، وما تبقى من موجودات سائلة أو قابلة للتسييل في المصارف. في تلك النقاشات، قدّمت المصارف شروطها وطموحاتها، بل وأطماعها في الاستيلاء على الأصول والأموال العامّة لإطفاء الخسائر.
في المقابل، وقعت الدولة اللبنانيّة بين انصياع الكتل النيابيّة لضغط اللوبي المصرفي من جهة، والشروط الإصلاحيّة المعاكسة التي قدّمها صندوق النقد من جهة أخرى. وفي جميع الحالات، ظلّ النقاش الجدّي يدور أوّلًا وآخر حول مسألة الخسائر المصرفيّة، وكيفيّة احتسابها والتعامل معها، من دون الذهاب أبعد من هذه الإشكاليّة نحو أولويّات أخرى.
تجاهل الخسائر المجتمعيّة
على هامش كل تلك النقاشات، كانت هناك كتلة أضخم وأهم، هي الخسائر المجتمعيّة التي لم تبحث أي خطّة في كيفيّة التعامل معها، أو في كيفيّة توزيع أعبائها.
هي خسائر بدأت بتهاوي قيمة أجور موظفي القطاع العام بالليرة اللبنانيّة وبدل النقل، ومعاشات المتقاعدين العسكريين الشهريّة، وتدهور قيمة تعويضات نهاية الخدمة. كما شملت تضاؤل تغطية الصناديق الضامنة، وفي طليعتها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، إلى مستويات شبه معدومة، بالإضافة إلى خسارة مدّخرات صناديق نقابات المهن الحرّة. أمّا أهم هذه الخسائر المجتمعيّة، فهي انهيار خدمات المرافق العامّة والإدارات الرسميّة وتفككها، نتيجة الضمور الذي أصاب ميزانيّاتها والاعتمادات المرصودة لها.
في الأساس، كان من المفترض أن تكون كل هذه الخسائر في صلب اهتمامات أي حكومة تعمل على خطّة للتعافي المالي، وفي ضوء رؤية لإعادة الانتظام للميزانيّة العامّة، بالتوازي مع تصحيح ضريبي شامل يضمن الإيرادات للميزانيّة.
مع الإشارة إلى أنّ الموازنة العامّة التي كانت ترصد نفقات بقيمة 17.1 مليار دولار عام 2019، لم تعد قادرة على جباية أكثر من مليار دولار سنويًا من الضرائب ورسوم المرافق العامّة. وهذا ما يجعل تضخّم الخسائر المجتمعيّة نتيجة حتميّة لتراجع الدور الذي يلعبه القطاع العام، وشبكات الحماية الاجتماعيّة، والإنفاق على البنية التحتيّة في أي دولة. وهذا أيضًا ما أدّى إلى التخبّط الذي نعيشه اليوم في مسألة زيادة أجور موظفي القطاع العام والمعاشات التقاعديّة.
سجال زيادة الرواتب ومعاشات المتقاعدين
في آخر جلسات الحكومة اللبنانيّة يوم الثلاثاء الماضي، قررت الحكومة زيادة رواتب موظفي القطاع العام بواقع أربع أضعاف، إضافة إلى الراتبين اللذين جرى زيادتهما في السابق. كما قرّر المجلس زيادة بدل النقل إلى حدود 450 ألف ليرة، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 9 ملايين ليرة شهريّة.
أمّا بالنسبة إلى المتقاعدين، فقرّر المجلس زيادة المعاشات التقاعديّة بنحو ثلاث أضعاف، في جميع الأسلاك الأمنيّة والعسكريّة التي تستفيد من معاش تقاعدي شهري. وتم الاتفاق على أن يتم احتساب معاش العسكري المتقاعد على أساس المعاش مع كامل متمماته. كما تم الاتفاق على إضافة 50% على بدل الساعة للمتعاقدين في التعليم الرسمي والمهني والتقني.
في النتيجة، لم يكن أحد مسرورًا بكل هذه القرارات. فهذه الزيادة المحدودة، لم تكن كافية لتعويض التآكل الذي أصاب الرواتب والمعاشات التقاعديّة، والتي فقدت حتّى الآن 98.45% من قيمتها منذ بدء الانهيار النقدي.
وحتّى في حال تم تسديد جزء أو كل هذه الزيادات بالدولار، وفق منصّة صيرفة، لا يوجد ما يضمن خلال الأشهر المقبل وجود فارق وازن بين سعر صرف المنصّة وسعر السوق الموازية، لتحقيق مكاسب إضافيّة لموظفي القطاع العام والمتقاعدين. وفي حال تم رفع سعر منصّة صيرفة المعمول به لتسديد هذه الرواتب والمعاشات، إلى حد يلامس سعر السوق الموازية، فلن تستفيد هذه الفئة أبدًا من سحب الرواتب والمعاشات التقاعديّة بالدولار وفق سعر صرف المنصّة.
وهذا تحديدًا ما أدّى إلى تصاعد احتجاجات موظفي القطاع العام والمتقاعدين العسكريين في الشارع، بمجرّد علم هؤلاء بمحدوديّة الزيادات التي تم إقرارها في مجلس الوزراء، بعد أن واكب بدء هذه الاحتجاجات الجلسة نفسها (راجع المدن). وعلى ما يبدو اليوم، من المرتقب أن يستمر تصعيد هذه الفئة المتضرّرة في الشارع، ناهيك عن استمرار الإضرابات في المؤسسات العامّة، المطالبة بتحسين قيمة رواتب وأجور القطاع العام.
هواجس ماليّة ونقديّة
على المقلب الآخر، كانت هناك هواجس من نوع آخر. فسداد قيمة الرواتب والمعاشات المتقاعديّة وفق سعر المنصّة، سيعني تسارع استنزاف احتياطات المصرف المركزي، التي يتم استعمالها لتمويل عمليّات منصّة صيرفة. وتسارع استنزاف الاحتياطات، سيعني بدوره زيادة حجم الخسائر المتراكمة في مصرف لبنان، التي تحار الحكومة في كيفيّة توزيعها ضمن خطّتها للتعافي المالي.
أمّا إذا تم سداد جزء من هذه الزيادات بالليرة، فهذا سيعني تضخيم الكتلة النقديّة المتداولة بالعملة المحليّة، نظرًا لاعتماد الدولة على المصرف المركزي للاقتراض وتمويل الإنفاق، في ظل محدوديّة المداخيل والإيرادات الضريبيّة. وتضخيم الكتلة النقديّة، سيؤدّي إلى زيادة الضغط على سعر صرف الليرة اللبنانيّة، ما سيزيد من معدلات التضخّم التي يتحمّل تداعياتها جميع اللبنانيين. وفي هذه الحالة، ستتآكل أيضًا قيمة الزيادة في رواتب موظفي القطاع العام والمعاشات التقاعديّة، بفعل تراجع قدرتها الشرائيّة نتيجة التضخّم.
حتّى اللحظة، لم يتم الإعلان عن طريقة تسديد هذه الزيادات، والعملة التي سيتم تسديدها من خلالها. كما لم يتبيّن سعر صرف المنصّة الذي سيتم اعتماده لتسديدها، في حال قرّر المصرف المركزي تسديد الزيادات بالدولار كما جرى في السابق. وهذا ما يمنع احتساب كيفيّة تأثّر الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، أو الاحتياطات المتوفّرة لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة، نتيجة هذه القرارات. لكنّ الأكيد حتّى اللحظة هو أن فاتورة رواتب القطاع العام سترتفع بنحو 58%، فيما سيتم تحميل الكلفة إمّا لاحتياطات المصرف المركزي، أي خسائره، أو الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، أي قيمة الليرة.
غياب رؤية التصحيح المالي
كل ما سبق ذكره من هواجس، لا ينفي أهميّة تصحيح رواتب العاملين في القطاع العام ومعاشات متقاعدي الأسلاك العسكريّة والأمنيّة. بل وعلى العكس تمامًا، من الواضح أن القطاع العام لن يتمكّن من لعب دوره الاجتماعي، ما لم يتم تصحيح هذه الرواتب، وبما يعوّض ما لحق بها من خسائر نتيجة تدهور سعر صرف الليرة، بدل أن تقتصر الزيادات على تقديمات خجولة كما جرى يوم الثلاثاء الماضي.
إلا أنّ تحقيق هذا التصحيح الشامل واللائق في الأجور والمعاشات التقاعديّة، بدل الاكتفاء بالتقديمات الخجولة، ومن دون التسبب بتداعيات تضخميّة قاسية، أو بتآكل في احتياطات المركزي، يتطلّب أولًا وضع رؤية واضحة للتصحيح المالي. هذه الرؤية، يفترض أن تحقق بالدرجة الأولى تصحيحاً ضريبياً متكاملاً، بعد توحيد أسعار الصرف المعمول بها لاستيفاء الرسوم والضرائب، وباعتماد سعر صرف عائم ومتحرّك وواقعي. وعندها فقط، يمكن مواءمة الزيادات المتوقّعة في الإيرادات الضريبيّة، مع الزيادات المطلوبة والمعتبرة في الرواتب والمعاشات التقاعديّة. وهذا ما سيسمح أيضًا بزيادة الاعتمادات التي تحتاجها المرافق العامّة والإدارات الرسميّة لتستعيد نشاطها، بما فيها تلك القادرة على تأمين إيرادات إضافيّة للدولة.
في هذه الحالة، ستتمكّن الدولة أولًا من تأمين الزيادات اللائقة والمناسبة للأجور والمعاشات التقاعديّة، ما سيعالج أزمة اعتراض المتقاعدين والموظفين على الزيادات المحدودة الراهنة. كما ستتمكّن الدولة من تحقيق هذه الزيادات بشكل مستدام على المدى الطويل، ومن دون الاعتماد على خلق النقد المستمر أو استنزاف الاحتياطات. أمّا الأهم، فهو أنّ رؤية من هذا النوع ستعيد الاعتبار إلى الدور الاجتماعي للقطاع العام، الذي يرتبط بشكل وثيق بشبكات الحماية الاجتماعيّة والخدمات العامّة والبنية التحتيّة، وغيرها من الشروط التي لا يمكن المضي بمسار التعافي المالي من دونها.
تطبيق كل هذا المسار، يحتاج أولًا إلى رؤية الانهيار بعدسات مختلفة عن تلك التي تستخدمها الحكومة اليوم لقراءة الوضعين المالي والاقتصادي. فشرارة الانهيار الأولى كانت سقوط النظام المصرفي بالتأكيد، إلا أنّ أضراره لم تقتصر على وضعيّة المصارف، بل شملت مسائل أخطر يفترض أن تتعامل معها الدولة اليوم، ومنها المسائل المتعلّقة بالميزانيّة العامّة والأجور ودور القطاع العام وفعاليّته، وبسائر الخسائر المجتمعيّة بشكل عام.
وهذه الأولويّات تتناقض طبعًا مع أولويّات القطاع المصرفي ومن يدور في فلكه من سياسيين، المصرّين على تبديد المال العام لمعالجة الخسائر المصرفيّة في المستقبل، بدل استعماله للتعامل مع الخسائر المجتمعيّة. هنا بالتحديد، تظهر أهميّة تفعيل الحركة النقابيّة، لحماية مصالح الشرائح الاجتماعيّة الهشّة، الأكثر تضرّرًا من الانهيار الحاصل.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها