المصدر: المدن
أسئلة ما بعد سلامة: الدولار ومصير “صيرفة” والأصول السامّة
وبمعزل عن المدّة التي سيحتاجها لبنان لتعيين الحاكم الجديد، بات هناك ضرورة للبحث في مصير العديد من الملفّات النقديّة في مرحلة ما بعد سلامة، وخصوصًا على مستوى سعر صرف الدولار وآليّة عمل منصّة صيرفة، ومعايير الإفصاح المالي المعتمدة لإعداد ميزانيّة المصرف المركزي.
صيرفة: السوق مدمنة على أداة نقديّة سيّئة
لن يكون من السهل الدفاع عن بقاء منصّة صيرفة في ظل أي إدارة جديدة للمصرف المركزي، خصوصًا بعدما تنامت الشكوك حول الغاية التي تحققها هذه المنصّة في الوقت الراهن.
فمنصّة صيرفة لا تمثّل بطبيعة الحال أداة حرّة للتداول بالدولار، وهي ليست خطوة على طريق تعويم أو توحيد أسعار الصرف، كما كان من المفترض أن تكون. هي مجرّد سعر صرف إضافي، يكرّس مبدأ الأسعار المتعددة، التي “تفسح المجال للممارسات الفاسدة”، كما أشار تقرير البنك الدولي الأخير، الذي تحدّث عن مشكلة تعدّد أسعار الصرف في الدول المأزومة نقديًا.
والكلام عن “الممارسات الفاسدة”، يأخذنا تلقائيًا للسؤال عن آليّات عمل المنصّة المعتمدة شراء الدولارات من السوق الموازية، أو المعايير المعتمدة في المصارف لبيع الدولار المدعوم. ومفاتيح الإجابة عن كل هذه الأسئلة، تبقى حتّى اللحظة بيد شخص واحد إسمه رياض سلامة، إلى جانب بعض الذين عاونوه في تصميم وإدارة المنصّة، مثل مستشارته ماريان الحويّك (المتورّطة مع الحاكم وأسرته في الملفّات الجنائيّة، التي تحقق بها النيابات العامّة الأوروبيّة).
باختصار، رحيل الحاكم يفترض أن يمهّد إمّا لتقليص حضور ونطاق عمل المنصّة تدريجيًا، والعمل على آليّة بديلة للتداول الحر والتلقائي بالدولار الأميركي. أو إلى تغيير هويّة وآليّة عمل المنصّة نفسها، بما يزيد من شفافيّة عمليّاتها تدريجيًا، وصولًا إلى لعبها دور الوسيط الفعلي للتداول الحر بالدولار.
مع الإشارة إلى أنّ تصفية المنصّة أو تغيير هويّتها هو تحديدًا ما طلبه صندوق النقد الدولي سابقًا، في إطار المناقشات حول آليّات توحيد أسعار الصرف المتعددة. ولهذا السبب، من غير المتوقّع أن تستمر المنصّة بلعب الدور نفسه بعد رحيل سلامة، هذا إذا افترضنا أن نائب الحاكم الأوّل -ومن بعده الحاكم الجديد- لن يكونا من “صنف” رياض سلامة.
لكن في الوقت نفسه، من المهم الإشارة إلى أنّ المنصّة، ورغم كونها أداةً نقديّة سيّئة، باتت جزءًا من آليّات العرض والطلب في سوق القطع الموازي، ما يعني أنّ السوق ستعاني من اختلالات كبيرة في حال إلغاء المنصّة على نحو فوري. كما من المعلوم أنّ المنصّة باتت تؤدّي أدواراً تتخطّى الأهداف النقديّة وحدها، من قبيل تسديد رواتب العاملين في القطاع العام بالدولار وبأسعار صرف مدعومة. وإدمان السوق على آليّة عمل منصّة صيرفة، هو ما يفسّر ارتفاع سعر صرف الدولار خلال فترة إضراب المصارف، وتوقّف عمل المنصّة عبر الفروع المصرفيّة.
وبهذا المعنى، وحتّى إذا أراد نائب الحاكم، ومن بعده الحاكم الجديد، التخلّص من المنصّة وآليّاتها، سيكون هناك ضرورة للخروج بشكل متدرّج وبطيء من “إدمان السوق” على هذه الأداة النقديّة السيّئة. ومجددًا: هذا إذا افترضنا أنهما لن يكونا من طينة رياض سلامة.
ولاستمرار عمل المنصّة بشكل مؤقّت، قبل التخلّص منها أو تغيير هويّتها تدريجيًا، سيحتاج خليفة سلامة لمسك خيوط السوق الموازية، التي تعامل معها الحاكم لجمع الدولار، ناهيك عن آليّة بيع الدولارات بالسعر المدعوم للمصارف. وهذا سيفرض على الحاكم الكشف عن الكثير من أوراق المرحلة السابقة، ومنها علاقته الشائكة بكبار اللاعبين في السوق الموازية، وحجم العمولات التي اعتاد على تسديدها لهؤلاء مقابل جمع الدولارات من السوق.
وكشف الأوراق، سيكون بحد ذاته تحدّيًا كبيرًا. إلا أنّ التحدّي الأكبر سيكون الخروج لاحقًا من آليّة عمل المنصّة، بوجود شبكة كبيرة من المصالح التي نمت على هامش المنصّة نفسها. بصورة أوضح: قد لا يتعاون كبار الصيارفة في السوق مع أي آليّة أخرى يمكن الانتقال إليها، إذا لم تؤمّن العمولات والأرباح نفسها التي أمّنتها المنصّة.
الأصول السامّة
حتّى اللحظة، عجز كاتب هذه السطور عن إيجاد اقتصادي أو خبير مالي واحد يستطيع تفسير المعايير المحاسبيّة التي تم على أساسها قيد معظم موجودات مصرف لبنان، وخصوصًا تلك التي تصنّف كأصول سامّة، أي الأصول الوهميّة أو المشكوك بصحتها التي تم قيدها لإخفاء خسائر معيّنة، أو رمي خسائر أخرى على كاهل الدولة اللبنانيّة.
من بين هذه القيود مثلًا، تسجيل دين 16.5 مليار دولار كإلتزامات على الدولة، لمصلحة المصرف المركزي، خلال شهر شباط الماضي، مقابل كل عمليّات القطع التي قام بها المصارف لحساب الدولة منذ العام 2007. ومنها أيضًا حساب الموجودات الأخرى، الذي سجّل فيه الحاكم أصولاً وهميّة، مقابل السيولة التي خسرها على مراحل طوال العقود السابقة. ومنها كذلك “صندوق استقرار سعر الصرف”، الذي أضافه الحاكم في بداية الشهر الحالي، ربما تمهيدًا لتحميل الدولة كلفة تمويل تثبيت سعر الصرف، وهو العنوان الذي أخفى سابقًا كلفة الهندسات الماليّة وغيرها من العمليّات غير التقليديّة.
من الأكيد أنّ خليفة سلامة سيرث ميزانيّة لا تفسّر أرقامها أي أعراف أو علوم ماليّة ومحاسبيّة. وأكثر من ذلك، ستكون الحاكميّة الجديدة أمام تحدّي قيد العمليّات الجديدة، وفق الأصول السليمة، بوجود بنود محاسبيّة مشوّهة واختلالات كبيرة قائمة أساسًا في الميزانيّة.
وعلى هذا الأساس، قد يكون نائب الحاكم الأوّل، ومن ثم الحاكم الجديد، بحاجة إلى فترة انتقاليّة طويلة لإعادة هيكلة الميزانيّة وحصر الخسائر بطريقة جديدة، قبل العودة إلى قيد العمليّات بشكل سليم. وفي كل الحالات، ستحتاج الحاكميّة إلى انتظار خطّة التعافي المتكاملة، لإعادة هيكلة المصرف المركزي والقطاع المصرفي بشكل عام، ومعالجة الخسائر السابقة المتراكمة.
في جميع الحالات، خروج سلامة من الحاكميّة في نهاية تمّوز لن ينهى تداعيات حقبته، بل سيكون عنوانًا لحقبة جديدة وطويلة، عنوانها الخروج التدريجي من آليّات الحوكمة التي أرساها رياض سلامة. أمّا الخشية اليوم، فهي من إمكانيّة تعيين حاكم جديد من المدرسة نفسها وطريقة التفكير ذاتها، وبهدف حماية المصالح والحسابات نفسها التي دافع عنها رياض سلامة. وفي هذه الحالة، قد لا يمر لبنان بمرحلة انتقاليّة تُخرجه من عبثيّة السياسة النقديّة التي يعيشها اليوم، بل سيستمر المصرف المركزي بلعب دور العقبة التي تحول دون الدخول في مرحلة التصحيح المالي.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها