المصدر: المدن
المركزي يكسب: 3.28 مليار دولار من أسعار الذهب
لم تعد ميزانيّة مصرف لبنان النصف الشهريّة تحفل بالكثير من التغيّرات المثيرة، بعدما التزم المجلس المركزي للمصرف منذ رحيل رياض سلامة بسياسة عدم المساس بالاحتياطات. إذ لم تعد هذه الميزانيّة تعكس الاستنزاف المتواصل في قيمة السيولة الجاهزة التي يملكها مصرف لبنان، وهو ما كان ينتظره المراقبون في العادة كل 15 يومًا. ومع ذلك، ما زالت هذه الميزانيّة تعكس بعض التغيّرات التي تستحق الوقوف عندها من وقت إلى آخر، وخصوصًا تلك التي تتصل بتركيبة الميزانيّة، وحجم الأصول ذات القيمة المضمونة والأكيدة، مثل احتياطات الذهب، التي تختلف قيمتها في الميزانيّة بحسب أسعار الذهب الرائجة في السوق.
وعلى أي حال، من المهم الإشارة إلى أنّ هذا النوع من التغيّرات، مثل قيمة احتياطات الذهب، تؤثّر بشكل مباشر على حجم الخسائر المتراكمة في الميزانيّة، والتي ترتبط بدورها بنسبة الخسارة التي طالت أموال المودعين، التي وظّفتها المصارف التجاريّة في المصرف المركزي. ومن الطبيعي أن نتوقّع أن يتم تضمين هذه التغيّرات في الخطط الحكوميّة الماليّة المقبلة، إذا ما أبصرت النور يومًا ما، بعدما تبيّن أن الخطّة الحكوميّة الراهنة أصبحت حبيسة الأدراج، تمامًا كحال الاتفاق على مستوى الموظفين الذي تم توقيعه مع صندوق النقد –على أساس هذه الخطّة- في نيسان من العام الماضي. مع الإشارة إلى أنّ آخر زيارات بعثة الصندوق عكست تمنّعًا سياسيًا واضحًا، في وجه الإصلاحات التي نصّ عليها هذا الاتفاق.
خلال سنة: 3.28 مليار دولار ربح
بحسب الميزانيّة التي نشرها المصرف المركزي مؤخّرًا، والتي تعكس وضعيّة المصرف الماليّة في بدايات هذا الشهر، بلغت قيمة احتياطات الذهب التي يملكها المصرف نحو 18.42 مليار دولار أميركي، مقارنة ب17.37 مليار دولار فقط قبل 15 يومًا، أي في منتصف شهر تشرين الأوّل الماضي. وبهذا المعنى، ارتفعت قيمة الذهب الموجودة في محفظة المصرف المركزي بنحو 1.05 مليار دولار، خلال فترة لا تتجاوز الأسبوعي عمل فقط. وهذا التحوّل المثير للاهتمام، جرى بفعل ارتفاع قيمة الذهب بشكل سريع جدًا في الأسواق العالميّة، خلال النصف الثاني من شهر تشرين الأوّل الماضي.
امّا إذا أردنا المقارنة على أساس سنوي، فيمكن الإشارة إلى أنّ قيمة احتياطات الذهب الموجودة بحوزة المصرف بلغت 15.14 مليار دولار أميركي في أواخر تشرين الأوّل من العام الماضي، أي في الفترة المماثلة تمامًا لفترة إصدار الميزانيّة النصف شهريّة الأخيرة. وبهذا الشكل، يكون مصرف لبنان قد كسب خلال فترة سنة 3.28 مليار دولار، جرّاء ارتفاع قيمة بند الذهب بين الفترتين. مع الإشارة إلى أنّ الاسواق العالميّة شهدت خلال هذه الفترة مجموعة من الاضطرابات الماليّة والمصرفيّة، التي أسهمت في ارتفاع أسعار الذهب بهذا الشكل، وهو ما صب في النهاية في مصلحة المصرف المركزي.
التداعيات على الأزمة الراهنة
بعيدًا عن الأرقام المحاسبيّة المضجرة، لا يمكن الاستخفاف بأثر هذا التطوّر على الأوضاع الماليّة على المدى البعيد، بل وبأثره على مسائل مهمّة تخص أزمة المصارف والمودعين. فحجم الخسائر التي تراكمت في ميزانيّة مصرف لبنان، والتي تُعتبر أساس الأزمة المصرفيّة الراهنة، تتمثّل تحديدًا في الفارق بين أصول المصرف المركزي الحقيقيّة بالعملة الصعبة، والإلتزامات المتوجّبة عليه للمصارف بالعملات الأجنبيّة. وهذه الخسائر، هي ما يحول دون استعادة الثقة بالنظام المالي، ودون انتظام عمله، إذ أن هذه الخسائر طالت بشكل أساسي أموال المصارف المودعة في مصرف لبنان.
ارتفاع قيمة بند الذهب بهذه القيمة، بين تشرين الأوّل من العام الماضي وتشرين الأوّل من هذه السنة، تعني ببساطة ارتفاع قيمة موجودات مصرف لبنان الحقيقيّة بهذه القيمة، أي تخفيض قيمة الخسائر المتراكمة بشكل مواز. وهذا التطوّر لا يعني حتمًا الدعوة إلى استعمال الذهب لسداد قيمة الودائع، لكنّه يعني بشكل عام تحسّن ملاءة المصرف المركزي الماليّة، وهو ما يقلّص حجم الفجوة المطلوب سدادها في المستقبل.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ حجم الخسائر الإجماليّة في ميزانيّة مصرف لبنان، كما قدّرته خطّة الحكومة الماليّة، يوازي نحو 60 مليار دولار (يُضاف إليها نحو 13 مليار دولار من خسائر ميزانيّات المصارف التجاريّة، وهذه الخسائر مستقلّة عن ميزانيّة المصرف المركزي). أي بمعنى أوضح، يبلغ حجم التحسّن في قيمة احتياطات الذهب نحو 5.4%، من إجمالي حجم الخسائر المتراكمة في ميزانيّة المصرف المركزي، والتي تمثّل أساس الأزمة الراهنة.
تحوّلات في احتياطات المركزي الماليّة
على مستوى الاحتياطات الماليّة، أي السيولة الجاهزة والقابلة للاستعمال، بلغت الموجودات الخارجيّة في أواخر شهر تشرين الأوّل الماضي نحو 14.14 مليار دولار، مقارنة ب13.99 مليار دولار في منتصف الشهر نفسه، أي بزيادة قدرتها 150 مليون دولار بين الفترتين (مع العلم أنّ هذه القيمة الإجماليّة تشمل ما يزيد عن 5 مليارات دولار من سندات اليوروبوند التي يملكها مصرف لبنان، والتي يفترض شطبها من المعادلة لتبيان قيمة السيولة الفعليّة).
وفي جميع الأحوال، لا يمكن من خلال هذه الأرقام وحدها تبيان مصدر هذه الزيادة، وفي ما إذا كانت نتيجة شراء مصرف لبنان للدولارات من السوق، أو إذا ما كانت جرّاء ارتفاع قيمة الاحتياطات باليورو بفعل تغيّر سعر الصرف. ولذلك، يمكن ترقّب بيان حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدوري، لتبيان سبب التغيّرات في قيمة الاحتياطات.
في الخلاصة، أهم ما في الأمر، هو أنّ الميزانيّة النصف الشهريّة مازالت تعكس المشكلة الأساسيّة في كل وضعيّة المصرف الماليّة، والمتمثّلة في امتلاء الميزانيّة بالخسائر غير المُعالجة بعد. وهذه الخسائر هي ما يحوّل المصرف المركزي إلى مؤسسة عاجزة عن إدارة القطاع المصرفي، على نحوٍ يسمح بتقديم أبسط الخدمات المصرفيّة، المتمثّلة بتقديم القروض وتلقي الودائع لأجل. ومعالجة هذه الإشكاليّة، مستحيل من دون خطّة ماليّة شاملة، تديرها سلطة سياسيّة تملك القدرة والنيّة على تنفيذ الإصلاحات الجريئة، وفي طليعتها إعادة هيكلة القطاع المصرفي ومعالجة الخسائر المتراكمة في ميزانيّات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها