المصدر: المدن
“انتعاشة” 2023: التصحيح العشوائي واقتصاد الغابة
خلال العام الماضي، أدهش لبنان المؤسسات الدوليّة بعودة معدّلات الاستيراد إلى ما كانت عليه قبل حصول الانهيار، بالرغم من استمرار التدهور في سعر صرف الليرة اللبنانيّة في تلك السنة. تلقّفت تلك المؤسّسات -مثل البنك الدولي- هذا التطوّر بحذر شديد، خصوصًا لجهة أثره على مستوى استنزاف العملة الصعبة وعجز الحساب الجاري، أو على مستوى “التطبيع مع الأزمة”، أي التعوّد عليها والتأقلم معها، والعودة إلى نمط الاستهلاك الذي سبقها، بدل سلوك درب التصحيح المالي والنقدي المنظّم. وهذا تحديدًا ما دفع البنك الدولي إلى عنونة آخر تقاريره بعبارة: “التطبيع مع الأزمة ليس طريقًا للاستقرار”، في إشارة إلى خطورة اعتبار هذا الدرب تطوّرًا إيجابيًا.
“الانتعاشة” الإضافيّة عام 2023
عام 2023، ثمّة ما يكفي من مؤشّرات للدلالة على “انتعاش” إضافي في العديد من مؤشّرات الحركة الاستهلاكيّة والاقتصاديّة، وبما يتجاوز تلك التي شهدها العام 2022.
فحتّى قبل أن يبدأ موسم الاصطياف، تجاوز عدد الوافدين هذه السنة إلى مطار بيروت الدولي حدود 1.2 مليون وافد، لغاية شهر نيسان الماضي، أي بزيادة نسبتها 25% مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي (وبنحو 2.4 أضعاف مقارنة بعام 2021). أمّا حركة الحاويات عبر مرفأ بيروت، فازدادت خلال الفترة نفسها بنسبة 10%، مقارنة بالعام الماضي، بينما حقّق ميزان المدفوعات فائضًا بقيمة 1.2 مليار دولار خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام (مقارنة بعجز بقيمة 1.7 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي).
وبعيدًا عن لغة الأرقام المملّة، تكفي المشاهدات اليوميّة في الفنادق والمطاعم اللبنانيّة، والتي تحوّلت إلى أحد مواضيع السجال عبر مواقع التواصل الاجتماعي، للدلالة على تزايد الحركة السياحيّة والاستهلاكيّة في السوق. بعض هذه الحركة الاستهلاكيّة جاء كنتيجة لتزايد أعداد الوافدين مقارنة بالسنوات السابقة، فيما جاء بعضها الآخر مدفوعًا بتزايد معدلات استهلاك المقيمين منذ العام الماضي، بدلالة الارتفاع الذي شهدته أرقام الاستيراد في جميع أشهر السنة من دون استثناء.
كل هذا المشهد، يعيد طرح السؤال الذي طرحه البنك الدولي في آخر تقاريره: كيف يمكن فهم هذا التأقلم مع الأزمة، لجهة عودة الحركة الاقتصاديّة إلى التسارع، بالرغم من استمرار الانهيار الذي يشهده القطاع المالي وتعيشه ماليّة الدولة؟ وما الذي حصل خلال الأشهر الماضية، حتّى عادت الحركة الاستهلاكيّة للتسارع على هذا النحو؟ وهل يمكن أن تشكّل هذه “الانتعاشة” (مع الإصرار الدائم على وضع العبارة بين قوسين) استقرارًا اجتماعيًا أو اقتصاديًّا على المدى البعيد، من دون سلوك درب الإصلاحات الماليّة والنقديّة الجذريّة؟
دور موجة الاغتراب الأخيرة في زيادة معدلات الاستهلاك
تشير الإحصاءات إلى أنّ عدد اللبنانيين الذي هاجروا بين العامين 2018 و2022 تجاوز حدود الربع المليون شخص، ما مثّل أكبر موجة هجرة شهدتها البلاد منذ بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة عام 1975. وكما هو معلوم، استمرّت منذ نهاية العام 2022، وخلال النصف الأوّل من العام الراهن، موجة الهجرة الحاليّة، خصوصًا أن إحصاءات مرصد الأزمة التابع للجامعة الأميركيّة تشير إلى أنّ 77% من اللبنانيين يسعون إلى الهجرة أو يفكرون فيها، مع ارتفاع كبير في هذه النسبة في أوساط الاختصاصيين العاملين في قطاعات التعليم والهندسة والطب والتمريض وغيرها.
موجة الهجرة هذه، خلقت جيلًا جديدًا من اللبنانيين الموجودين في الخارج، من الذين مازالوا يمتلكون صلات وثيقة بعائلاتهم ومجتمعاتهم في لبنان. وهذا تحديدًا ما ساهم برفد السوق المحليّة بكميّات متزايدة من النقد بالعملات الأجنبيّة، جرّاء تحويلات هذه الفئة من المغتربين للأسر المقيمة في لبنان. مع الإشارة إلى أنّ ضبط أو تقدير قيمة هذه التحويلات بشكل دقيق بات مسألة في غاية الصعوبة اليوم، في ظل تفشّي اقتصاد النقد الورقي، الخارج عن رقابة النظام المالي الشرعي.
وفي الوقت نفسه، ساهمت الخضّات الماليّة التي شهدتها المصارف الغربيّة في النصف الأوّل من هذا العام في إحياء موجة جديدة من التحويلات الواردة إلى السوق المحليّة، والتي استهدفت في معظم الحالات شراء العقارات، للاستفادة من الانخفاض الراهن في أسعار العقارات أولًا، وللحفاظ على قيمة المدخرات وتفادي المخاطر التي تحيط بالمصارف الغربيّة ثانيًا. وهذا تحديدًا ما يفسّر ارتفاع أسعار العقارات في العديد من المناطق اللبنانيّة خلال النصف الأوّل من السنة الحاليّة، وبنسب قاربت 20% في بعض الحالات.
أمّا الأهم، فهو أنّ الجيل الأخير من المغتربين اللبنانيين بدأ بإعطاء الدفع لحركة الاصطياف والسياحة التي تشهدها البلاد حاليًا، وهو ما يفسّر بدوره الارتفاع التدريجي في أعداد الوافدين خلال السنتين الماضيتين. مع العلم أن القيود التي فُرضت على السفر والسياحة خلال فترة تفشّي وباء كورونا، ساهمت في كبت هذه الحركة السياحيّة خلال العام 2020 والنصف الأوّل من العام 2021، قبل أن تعود البلاد وتشهد تزايدًا تدريجيًا في أعداد الوافدين منذ العام 2021. ومرّة جديدة، ساهم تنامي هذه الحركة السياحيّة في زيادة معدلات الاستهلاك والاستيراد، وهو ما انعكس في أرقام العام 2022 والنصف الأوّل من العام 2023.
دور المعالجات النقديّة غير المستدامة والعامل النفسي
خلال الأشهر الماضية، تمكّن مصرف لبنان من إرساء استقرار نقدي نسبي، من خلال التركيز على ضخ الدولارات عبر منصّة صيرفة، وتثبيت سعر الصرف الذي يقوم من خلاله بشراء الدولارات من السوق الموازية. وكما بات معروفًا اليوم، حملت هذه السياسة النقديّة كلفة ضخمة، على مستوى استنزاف الاحتياطات أولًا، وخلق النقد لشراء الدولارات السوق الموازية ثانيًا، وبآليّات افتقدت للشفافيّة والوضوح. وبشكل عام، كان من الواضح أنّ هذه الآليّات –وبشهادة جميع تقارير المؤسسات الدوليّة- لم تتسم بالكثير من الاستدامة، أو بالقدرة على إرساء سياسة نقديّة مستقرّة على المدى البعيد.
ومع ذلك، تمكّن هذا الاستقرار النسبي في سعر صرف الليرة من الحفاظ على قيمة الأجور المقوّمة بالعملة المحليّة، وخصوصًا تلك التي يستفيد منها القطاع العام اللبناني. وفي الوقت نفسه، ساهمت بعض آليّات عمل المنصّة، التي قامت على تحويل أجور موظفي القطاع العام إلى الدولار الأميركي بسعر المنصّة، بزيادة محدودة في القدرة الشرائيّة لهذه الأجور. كما استفادت هذه الفئة أيضًا من المساعدات الاجتماعيّة التي أقرّتها الحكومة على دفعتين، والتي ساهمت بضخ كميّة معتبرة من السيولة في السوق. وإلى جانب هذه المساعدات، كانت فئات واسعة من موظفي القطاع العام قد تمكنت خلال الفترة الماضية من تسوية أوضاعها، عبر العمل في مهن إضافيّة في القطاع الخاص، مستفيدة من الإضراب الراهن الذي تشهده الإدارات الرسميّة.
أمّا الأهم، فهو أن جزءاً كبيراً من الأسر اللبنانيّة تخطّت صدمة الانهيار الأولى، التي دفعتها سابقًا للإحجام عن الإنفاق والتحسّب لسيناريوهات الأزمة المختلفة، بل وعادت هذه الأسر للتوسّع في الإنفاق بغياب نظام مالي يكفل الإدخار الآمن. وبشكل من الأشكال، عادت تلك الأسر لتعويض إمساكها عن الإنفاق، من خلال الإفراط بالاستفادة من جميع مداخيلها للاستهلاك. مع الإشارة إلى أنّ خروج المجتمع اللبناني من مرحلة الاقفال، التي شهدتها فترة تفشّي وباء كورونا، ساهمت بدورها في رفع معدلات الإنفاق بشكل إضافي ابتداءً من منتصف العام 2021، وهو ما رفع من أرقام الاستيراد إلى معدلات قياسيّة خلال العام الماضي.
التصحيح الفوضوي واقتصاد الغابة
في النتيجة، ما يشهده لبنان اليوم هو تسارع ملحوظ في حركة الإنفاق، وفي الحركة الاستهلاكيّة الناتجة عن موسم الاصطياف، من دون أن يتوازى ذلك مع أي تصحيح شامل على المستوى النقدي، أو على مستوى أزمة القطاعين العام والمصرفي. بهذا المعنى، وإن استفادت فئة معيّنة من اللبنانيين من هذه الحركة الاقتصاديّة المستجدة، إلا أن مؤشّرات الأزمة الأشمل ستبقى على حالها، من دون أي تحسّن فعلي.
وهذا تحديدًا ما يقودنا الاستنتاج إلى أنّ لبنان يتجه نحو نموذج اقتصاد الغابة، التي ينجح فيها البعض في تحسين ظروفه المعيشيّة، من دون أن يكفل ذلك وجود شبكات حماية اجتماعيّة أو خدمات عامّة قادرة على ضمان مصالح الفئات الأقل قدرة، والتي لم تستفد من هذه الزيادة في معدلات الاستهلاك.
أمّا الأهم، فهو أنّ تصحيحاً عبثياً وعشوائياً من هذا النوع، لن يكفل نهوض البنية التحتيّة، التي تحتاجها قيامة قطاعات الاقتصاد الحقيقي. كما لن يكفل عودة القطاع المالي إلى ممارسة دوره الطبيعي والضروري، في حماية المدخرات وتأمين التسليف. أمّا إدارات الدولة، فستبقى على حالها، في ظل الشلل الذي يصيبها، وبوجود العجز الذي ينهك الماليّة العامّة. في هذه البيئة الاقتصاديّة، يصبح النمو –إذا تحقق- مجرّد رقم يعبّر عن رفاهيّة جزء من المقيمين، من دون أن يعني أي انتعاش اقتصادي بالمعنى الجدّي، أي بمعنى التنمية المستدامة والازدهار الطويل الأجل. لهذا السبب بالتحديد، لا يمكن الإشارة إلى ما يجري بوصفه “انتعاشة”، إلا بعد الإصرار على وضع العبارة بين قوسين.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها