المصدر: المدن
رواتب القطاع العام بالدولار: لخدمة السياسة النقديّة
وفقًا لآخر مقرّرات المجلس المركزي لمصرف لبنان يوم أمس الإثنين، من المفترض أنّ يستمر المصرف بتسديد رواتب العاملين بالقطاع العام بالدولار الأميركي، للشهرين المقبلين. وعلى هذا الأساس، سيتحمّل مصرف لبنان مسؤوليّة شراء الدولارات من السوق الموازية، لاستعمالها في تحويل السيولة التي تخصصها الحكومة لهذه الرواتب بالليرة، إلى الدولار الأميركي، بسعر صرف 85,500 ليرة للدولار الواحد. وبهذا الشكل، سيكون المصرف المركزي قد إلتزم بالخطوط الحمر التي وضعها حاكمه بالإنابة وسيم منصوري، لناحية عدم إقراض الحكومة بالليرة أو الدولار، وعدم استنزاف المزيد من الاحتياطات في العمليّات التي يقوم بها مع الحكومة.
ففي نتيجة العمليّة، ستكون الحكومة قد أمّنت الليرات من الجباية الضريبيّة، وسيحوّل مصرف لبنان الليرات إلى دولارات تم جمعها مسبقًا من السوق، وستعود الدولارات إلى السوق من جديد بعد تسديدها للموظفين. الخسارة الطفيفة والوحيدة للمصرف المركزي، هي تلك التي سيتكبّدها بالليرة اللبنانيّة، التي يطبعها، جرّاء الفارق البسيط بين كلفة شرائه للدولارات من السوق الموازية، والسعر الأدنى الذي يعتمده لبيع الدولارات لموظفي القطاع العام، مقابل الليرات التي تخصصها الحكومة لذلك.
الغاية خدمة السياسة النقديّة
بخلاف ما يظنّه كثيرون، لم يعد هدف هذه الآليّة تصحيح القيمة الشرائيّة لموظفي القطاع العام. فالهامش بين قيمة الدولار الفعليّة في السوق، أي 89,500 ليرة للدولار، والقيمة التي سيتم اعتمادها لتحويل الرواتب إلى الدولار، أي 85,500 ليرة للدولار، لم يعد يتجاوز 4.5%. أي بمعنى آخر، قد لا تتجاوز قيمة هذا الفارق (الربح) الخمسة دولارات، بالنسبة للغالبيّة الساحقة من موظفي القطاع العام. وعلى هذا النحو، لم تعد هذه الآليّة ذات نفع كبير لهذه الفئة، بخلاف ما كان الحال عليه سابقًا، عندما تجاوز الهامش بين سعر المنصّة –الذي تم اعتماده لتحويل الرواتب إلى الدولار- وسعر السوق الموازية حدود 30% في شهر آذار الماضي.
وبخلاف ما يظنّه كثيرون أيضًا، لم يكن هدف هذه الآليّة يومًا إقراض أو تمويل الدولة من دولارات مصرف لبنان. فحسب وزير الماليّة يوسف الخليل نفسه، باتت الاعتمادات مؤمنة لتسديد الرواتب بالليرة لغاية نهاية سنة، بفعل زيادة الواردات الضريبيّة، التي حصلت بعد تصحيح أسعار الصرف المعتمدة لجباية الرسوم الجمركيّة والضريبة على القيمة المضافة. الآليّة المتفق عليها، تقتصر على تحويل الليرات إلى دولارات، بسعر “مدعوم” نسبيًا لا يقل بأكثر من 4.5% من سعر السوق الموازية، قبل تحويل الرواتب للموظفين. وعلى هذا النحو، لا تقدّم هذه الآليّة أي فائدة تُذكر للماليّة العامّة.
غاية الآليّة الأساسيّة، هي تقليص التذبذبات في سعر صرف الليرة اللبنانيّة في السوق، ووفق أسلوب بدأ باعتماده حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة. فقيمة رواتب موظفي القطاع العام تناهز اليوم حدود 7.1 ألف مليار ليرة لبنانيّة شهريًا، أي ما يقارب 79 مليون دولار بسعر السوق الموازية.
وضخ هذه القيمة من السيولة بالليرة دفعة واحدة، وفي بضعة أيّام في بداية الشهر، سترفع الطلب على الدولارات النقديّة بشكل سريع وخلال فترة قصيرة، وهو ما من شأنه أن يعبث بتوازنات العرض والطلب في السوق الموازية. مع الإشارة إلى أنّ أي سيولة يتم ضخها بالليرة حاليًا ستتحوّل حكمًا إلى طلب على الدولارات، إمّا للاستيراد أو للادخار، في ظل ضعف الثقة بمستقبل العملة المحليّة.
لهذا السبب، تلجأ الآليّة المعتمدة حاليًا إلى جمع الدولارات من السوق الموازية بشكل متدرّج، وعلى امتداد فترة زمنيّة طويلة، وحسب توفّر الدولارات في كل يوم، على أن يتم تسديد الرواتب لاحقًا بالعملة الصعبة. وبهذا الشكل، يكون سداد الرواتب قد أدّى إلى ضخ مباشر للدولارات في السوق الموازية، بدل أن يؤدّي إلى ضخ كتلة كبيرة من السيولة بالليرة في السوق. وهكذا يكون مصرف لبنان قد لجأ إلى هذه العمليّات لخدمة السياسة النقديّة، وفقًا لدوره المنصوص عنه في قانون النقد والتسليف، وليس لخدمة السياسة الماليّة للدولة كما تشير بعض التحليلات.
ما بعد بلومبيرغ
يمكن القول أنّ هذه الآليّة هي أحد الأدوات التي ورثها المجلس المركزي لمصرف لبنان، من حقبة الحاكم السابق رياض سلامة، من دون أن يتم التخلّي عنها، ربما لحساسيّة العبث بتوازنات العرض والطلب في السوق. مع العلم أنّ سلامة كان يلجأ إلى هذه العمليّات من خلال اعتماد منصّة صيرفة، في حين أن المجلس المركزي يقوم حاليًا بتسعير العمليّات وفقًا لسعر محدد سلفًا، بعدما تم إلغاء المنصّة.
إلا أنّ المشترك بين الحقبتين، هو آليّات شراء الدولار من السوق، التي تتسم بالكثير من الغموض والإلتباس، لجهة كيفيّة اختيار الصيارفة الذين يتعامل معهم مصرف لبنان لشراء الدولارات من السوق الموازية. وهذا الغموض الذي تعمّده الحاكم السابق رياض سلامة خلال مرحلة منصّة صيرفة، بات اليوم نتيجة طبيعة لغياب أي منصّة أو آليّة شفافة للتداول بالعملة الصعبة لدى مصرف لبنان.
لكل هذه الأسباب، تتجه حاليًا الأنظار إلى مرحلة ما بعد منصّة بلومبيرغ، لمعرفة أثر هذه المنصّة على آليّات بيع وشراء الدولار في السوق، ومنها تلك التي تتصل بعمليّة تسديد رواتب العاملين في القطاع العام. فإذا نجحت هذه المنصّة باستيعاب عمليّات السوق الموازية، وإذا تمكّن المصرف المركزي من إرساء معايير شفافة لهذه التداولات، بخلاف ما كان عليه حال منصّة صيرفة، من المفترض أن يتمكّن المصرف من شراء الدولارات من المنصّة نفسها، بدل جمعها من السوق الموازية بعمليّات غامضة وغير معلنة.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها