تهاني سنديان

الأثنين ١٤ آب ٢٠٢٣ - 17:45

المصدر: المدن

غالب غانم في سيرته… لبنان في صفائه وضوضائه

على مدى الأشهر الماضية، استقبلت الصحافة الثقافية اللبنانية كتاباً جديداً وتناولته بالعرض والتحليل وأقبل النُقاد على استعراض مضامين “أيام الصفاء والضوضاء”، هذه السيرة الذاتية الواسعة باتّساع لبنان، والتي تغطّيه بأكمله في صفائه كما في ضوضائه. والكتاب لا يأتي من أديب أريب فحسب، بل من مقام رفيع في فضاء القضاء اللبناني، في زمن تلبّدت سماؤه بغيوم الكدر والضوضاء فكانت بحاجةٍ ماسّةٍ إلى مَن يُعيد إليها صفاء الحق والحقيقة.

والكاتب هو رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، غالب غانم، الأديب الضليع بفنون الشعر والنثر والقاضي النزيه، فجاء الكتاب مزيجاً من مشاعر القلب ومنطق العقل، فقد مزج المؤلف عقل القاضي بقلب الأديب، وغالب غانم احترف الكتابة وأبدع فيها منذ زمن بعيد، لكن “الحقوق أوقعته في شِركِها من دون أن تُبعِدَه عن الأدب”، بحسب شهادة ألكسندر نجار خلال ندوةٍ عُقِدت حول كتاب “أيام الصفاء والضوضاء: سيرة ذاتية” ضمن فعاليات المهرجان اللبناني للكتاب الذي نظّمته الحركة الثقافية- إنطلياس بعنوان “ثقافة الحرية والمئوية الثالثة للحضور الانطوني في إنطلياس”؛ ولعلّ الحقوق والأدب “توأمان، فالميدانان يستخدمان الكلمة في خدمة الهدف السامي، والدفاع عن الحرية يشكل قاسماً مشتركا بينهما، والكاتب مؤتمن على الحريات ويستخدم حرية التعبير سلاحاً دفاعاً عن المظلوم ومكافحة الطغيان والفاسدين، فيما القاضي يطبق القانون من أجل صون الحرية العامة وإنصاف الضحية والإفراج عن المظلوم”.

أدار الندوة الأديب والمفكّر أنطوان سيف الذي أشار إلى أنّ “غالب غانم حينما شد العزم على تدوين سيرته الذاتية ونشرها كان واثقا من أن المحطة العمرية السابعة والسبعين من حياته ـ تيمّناً بـ”سبعون” ميخائيل نعيمةـ تقدم أفضل الحظوظ للوعي التنظيمي الذي طالما عرف به صاحبه، وكان وراء إنجازاته كافة، ناهيك بالحكمة التي لها حضور طاغ مستمر أيام الصفاء والهدوء الطبيعي، يعمد بها إلى قياس صدقية مساعيه بعد الانعتاق من كثير من مشاغل النضال الحاد”. وإشارة سيف الصادقة، في محلّها تماماً، فكاتب هذه السيرة المعروف بأدبه وتواضعه الجمّ لا يتوانى عن ذكر أسماء كوكبة من أهل القلم، من روّاد ورموز وأساتذة، تعلّم منهم ويُجِلُّهم، على الرغم من كثرتهم: بدءاً من بطرس البستاني، وصولاً إلى حبيب صادق، مروراً بحبيب عبد الساتر، ميخائيل نعيمة، الأخطل الصغير، بولس سلامة، أنطون غطاس كرم، جبور عبد النور، عبدالله لحود، ادمون رزق، سعيد عقل، المطران جورج خضر، يوسف الخال، ميشال طراد، محمد الفيتوري، جورج شحاده، أنسي الحاج، أدونيس، شوقي ابي شقرا، سليم وجوزف باسيلا، جميل جبر، أحمد سويد، جوزف حرب، نجاح العطار، محمد البعلبكي جورج جرداق، محمد علي موسى، جورج شكور، سليمان كتاني، رشيد درباس، مي المر، إميلي نصرالله، فؤاد الترك، رياض فاخوري، جورج غريب، سمير عطاالله، دياب يونس، هنري زغيب، جورج شامي وميشال جحا…

جاء كتاب غالب غانم على شكل سيرة ذاتية ترسّخ القيَم الوطنية والاجتماعية والثقافية والابداعية التي نشأ عليها الكاتب وترعرع. هي سيرة بعنوان “أيام الصفاء والضوضاء”، وصفها الناقد سليمان بختي بأنها “سيرة باهرة في مزاوجة الحق والحلم”. وما يميز هذه السيرة “ليس فقط تعلقها بشجرة الحياة وخزائن الذكرى ولكن في الصدق الذي يلف أرجاءها. نضارة الروح ونضارة الحرف كلما سمح المقام وتيسر النطق وطاب البوح”.

المهرجان اللبناني للكتاب الذي نظمته الحركة الثقافية- انطلياس (في شهر آذار الماضي) احتفاءً بصدور هذه التحفة الادبية والقضائية، وصفه صاحب الكتاب نفسه بأنه “وليمة أدبية قانونية وطنية واجتماعية”. ولأنّ”السيرة الذاتية حمولة حياتية، ونمط من أنماط كتابة التاريخ” كما يقول ألكسندر نجار، فإنّ غالب غانم يروي ذكرياته في اللحظات التي عاشها مع الرؤساء شارل حلو والياس سركيس وبشير الجميل وأمين الجميل والياس الهرواي واميل لحود وميشال سليمان ونبيه بري ورفيق الحريري ونجيب ميقاتي وميشال المر، وهي “لحظات ترسّخها الكلمات المطبوعة كي لا يطويها النسيان”. مع إنّ “كتابة السيرة الذاتية مغامرة محفوفة بالمخاطر، إذ يصعب على كاتبها أن يجمع ذكرياته من دون نقصان كما يصعب عليه الحفاظ على موضوعيته وعدم توظيف الحقائق لمصلحته على حساب الحقيقة”، غير أن “هذا الفخ لم يقع فيه غالب غانم، فهو ينبّه القارئ في مستهل كتابه إلى أنه لا يحب الـ أنا، لانها لا تتوافق مع التواضع الذي هو في صدارة الفضائل”. ولهذا السبب بالذات أشادت الأديبة إلهام كلاب بكتاب غالب غانم، فقالت: “في أيام الصفاء المهدد والمجرّح وفي ايام الضوضاء التي تصم الاذان والعقول تنفتح كوة في حائط الامل تنشر ضوءها المكتنز بالشجاعة والمعرفة والنضال والإبداع والعاطفة وينفتح الأفق على كتاب غالب غانم ايام الصفاء مع ملامح من صورته، وهذه السيرة تقدم في الكتاب زادا إنسانيا وفكريا وقانونيا وأدبيا (…) قاموس يَزِنُ الأدبَ بميزان العدل ويزن العدل بميزان العقل ويزهو بهذه الأضمومة الفريدة التي نحَتَ أطرافَها وأخصب حقولها في تحويله نِثار العمر الى صنيع مفعم بالحياة”.

يتحدث غالب غانم في سيرته الذاتية عن حبيبين شُغِف بهما قلبُه: الكتاب وبيروت، ويقارب الهوية فيختصرها بـ”الأب لبنان والجدّ العرب”، وبأنّ “المسيحيين واجهوا وحشية التتريك لكونهم طلائع العروبة”. ومن سيرة “الصفاء والضوضاء” نقرأ المقطع التالي: “ما زلتُ أؤمن بأن القضاء حديقة الجمهورية، رغم تصدع الأبنية وانقطاع الكهرباء واختفاء أوراق الهامش، وأنه المتن الذي تُكْتَبُ الدولةُ كلُّها على هامشه وليس العكس. وما زلت على يقين بأن استرجاع الرونق سيكون أول مظاهر استعادة الدولة، كما أعتقد أن من أولاهم القانون حق الحكم باسم الشعب اللبناني يستطيعون صيانة الموجود والنأي به عن مظاهر الفوضى التي يجب أن تمّحي من الذاكرة القضائية”. في العام 2012 نشر أولى ثمرات تجربته القضائية في كتاب بعنوان “باسم الشعب وللشعب”؛ له مؤلفات شتّى بعضها يتناول استقلال القضاء الذي عمل في سبيله قولاً وفعلاً، طوال تولّيه المسؤوليات القضائية المختلفة، وبعضها الآخر يتناول موضوعات أدبية، فنذكر من نتاجه في مجال الأدب والفكر النقدي: “شعر اللبنانيين باللغة الفرنسيّة (منشورات الجامعة اللبنانيّة، 1981)، “من الشائع إلى الأصيل-فصول في الفكر النقدي الأدبي” (منشورات الجامعة اللبنانية 2010)ْ، “أبعد من المنبر”(جزءان، 2003)، وفيه يتحدث عن نتاج والده عبدالله غانم الشعري والذي خلّد ذكره بإنشاء مركز ثقافي في بلدته بسكنتا يحمل اسم “مركز عبدالله الثقافي”. وكان الباحث والأديب وفيق غريزي قد وضع دراسةً وافية ضافية عن شعر عبدالله غانم.

وغالب غانم في المآل الأخير هو “مع الناس ولو لم يعلموا ذلك، ومع الألفة التي تصنع الحياة، ومع العقل ومنجزاته، ومع الوفاء، فهو وفيٌّ للأماكن التي عاش فيها ولاسيّما بلدته بسكنتا، التي يخاطبها بقوله: “خذيني الى حضنك الرؤوم كلما استفحلت الخطوب”، ووفيّ لمنزله العائلي حيث ولد وترعرع برعاية والده عبدالله ووالدته يمامة. ووفيّ بخاصة، لمبدأ العدالة مهما كلّف الوفاء من ثمن، إذ نقرأ في سيرة غالب غانم العذابات التي كابدها تمسّكاً بهذا المبدأ، والجهد الصادق الذي بذله لتخطّي معوقات الطائفية والفساد والبيروقراطية والمزاجية، على مدى محطات حياته القضائية والإدارية الجامعية والتأليفية والأدبية والخطابية. وفي الجزء الأخير من كتابه نقرأ علاقته الأثيرة مع الكلمة والكتابة والأوراق والرسائل والمنابر والخطب والمحاضرات والندوات. ونقرأ أيضاً ما يتذكره غالب غانم بفخر واعتزازعن صديقه الشيخ عبدالله العلايلي، وكيف كان يتناول “كيس الورق الأسمر المستعمل في الحوانيت، ليسجّل عليه خطبة رائعة في مهرجان ميخائيل نعيمة، أو حتى الكتابة على سند الإيجار، فكان لا يُعدَم وسيلة لتدوين أفكاره”.

وغالب غانم مسيرة متواصلة، قبل السيرة وبعدها، وأثناء العمل وخارج العمل، فهو “لا يُحسِن التقاعد” الذي عرّفه في حديث أدلى به لصحيفة “الأخبار” بأنه “فن الراحة مع بعض الكسل” فقد افتتح حديثه للصحيفة بقوله: “لا أًحسِن التقاعد”. وفي الحديث نفسه يقول غانم بشفافية وجرأة: “بعض القضاة لا يستحقون أن يكونوا قضاة”. غالب غانم ليس ظاهرةً على حِدة، بل هو حلقة في سلسلة نسيجٍ يُحبَكُ من سدى الأدب ولُحمة القضاء، نسيجٌ يبقى وقفاً على فئة من القضاة المبدعين في هذا الباب، كوكبٌ ضمن كوكبة من الأسماء التي يحتلّ فيها الوزير السابق رشيد درباس مكانةً تضاهي مكانة صاحب السيرة التي قال فيها درباس: “بعد طول كتمان قرر غالب غانم البَوحَ الرصين، فما أخفى حزنًا ولا بيَّت ضغنًا، بل سرد لنا من الحوادث رواية أدبية، واضعًا إيّانا في أرجوحة تهدهدنا بين فرط الأدب ولذة التشويق (…) وأنا أستطلع معكم سيرة من هامش السيرة، فتبزغ أمامي حقائق من خلال وقائع لا تنسى. كتاب “أيام الصفاء والضوضاء” توجيهًا ورؤية ومستقبلاً، مكتوبٌ بسردية رواقية لا روائية، كأني بالمؤلف يصحبنا معه في قاعة الخطوات الضائعة وهو يحدثنا عما كان، وما يجب أن يكون، وعن فصل من العصامية المرموقة طبع أجيالاً تَرَقَّت إلى الأعلى، بفضل المثابرة والجدية”.

سيرة غالب غام شهادة تنبض بالحياة، ووثيقة للأجيال المقبلة، كي تدرك أنّ لبنان كان واحة شجاعة وحق وبطولة وإبداع، وإنَّ قاماتٍ باسقة مِعطاءة، مثل غالب غانم، سطّرت أيامها الباهرة في سجل التاريخ. وكان الكاتب محمود شريح قد وصف الكتاب بقوله إنه “سيرة حافلة بالعطاء”؛ ولعلّ أدقّ وصفٍ لكتاب “أيام الصفاء والضوضاء” هو الوصف الذي يقدّمه الناشر: “نمطٌ فريد من أنماطِ السّيرة الذاتيّة، يصلُ الخاصُّ بالعام، والتاريخيَّ بالوجدانيّ، وطوالعَ شخص بظواهرِ حِقبة، والفجيعةَ ببهجةِ الحياة، والأريافَ بالضّفاف، ومهابةَ القضاء بطلاوةِ الأدب. وقد سطّره عقلُ قاضٍ مولَعٍ بالحقّ ومتمرّسٍ بإعلانه، وقلبُ أديبٍ مولَعٍ بالجمال ومفطورٍ على كشفِ أسراره، وهو، في الحالَين، مولَعٌ بالحرّية. حكايةٌ محبوكة على نولٍ واحد نَسَج من خيطانها وألوانها رموزاً وحصوناً بعضُها العصاميّةُ والمعاندة، وصناعةُ الفرح للذات وللغير، والولاءُ للحقّ لا لسواه، وتحريرُ المسؤوليّة من الهوى والرَخاوة، ومواجهةُ الغزوات والأخطاء التي تهدّد القضاء والإنحيازُ إلى الأضعف والأرقّ والأقلّ حظوةً، والانفتاحُ على عقل الآخر، ورفضُ القهقرى والمخادعة والإعوجاج والتكبيل في الفكر والعقيدة والسياسة والاجتماع، ونشدانُ السلامِ والأخوّةِ الإنسانيّة”.

 

 

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها