المصدر: المدن
هيئة القضايا في وجه سلامة: هذا ما تم تثبيته
منذ يوم الخميس الماضي، توقّف القاضي شربل أبو سمرا عن متابعة تحقيقاته في ملف رياض سلامة وشركائه، بعدما تقدّمت هيئة القضايا، التي تمثّل حقوق الدولة اللبنانيّة في الملف، بدعوى ارتياب تطلب نقل الملف إلى قاضي تحقيق آخر. وكما هو معلوم، وتمامًا كحال الدعاوى المماثلة في ملف انفجار المرفأ، لن تتمكّن الهيئة العامّة لمحكمة التمييز من البت بهذه الدعوى، لعدم اكتمال نصابها وتأخر التشكيلات القضائيّة. وهذا الواقع، هو ما قسم الآراء، بين تلك المرحّبة بخطوة هيئة القضايا، لكونها حمت التحقيق من أداء شربل أبو سمرا، الذي قدّم ما يكفي من أدلّة على محاباته لحاكم مصرف لبنان، وأخرى متوجّسة من إمكانيّة تعطيل الملف بشكل كامل، بفعل إبعاد أبو سمرا عن التحقيق وعدم إمكانيّة البت بدعوى الارتياب المشروع.
وقبل أسبوع واحد بالظبط من هذه الخطوة، تمكّنت هيئة القضايا من الاستحصال على قرار من الهيئة الاتهاميّة في بيروت، يقضي بفسخ قرار القاضي شربل أبو سمرا بترك رياض سلامة رهن التحقيق، بدل اعتقاله. على هذا الأساس، من المفترض أن تتولّى الهيئة الاتهاميّة صلاحيّة البت بقرار اعتقال سلامة أو تركه، وهو ما يفترض أن يتم بعد جلسة استجواب سيُدعي إليها سلامة في 29 آب المقبل. مع الإشارة إلى أنّ الهيئة حددّت لهذه الغاية موعدًا سابقًا لاستجواب الحاكم، في 9 آب الماضي، من دون أن يحضر الحاكم بسبب “تعذّر تبليغه”.
في خلاصة الأمر، ثمّة خريطة متشعّبة من الإجراءات التي قامت بها هيئة القضايا، ومن القرارات التي تمكّنت من الاستحصال عليها، في معركتها بوجه الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة. وهذا ما يفتح باب السؤال عن النقاط التي تمكّنت الهيئة من تثبيتها في هذه المواجهة الطويلة، لمصلحة الدولة اللبنانيّة. كما يفتح باب النقاش حول بعض الهواجس التي طرحها آخرون، تجاه بعض الخطوات التي قامت بها الهيئة، مثل التقدّم بدعوى الارتياب المشروع.
تثبيت استقلاليّة هيئة القضايا
للتذكير، كانت هيئة القضايا قد قرّرت منذ منتصف شهر آذار الماضي التدخّل في الدعوى المقامة من قبل النيابة العامّة الاستئنافيّة في بيروت ضد رياض سلامة، عملًا بأحكام القانون الذي يخص الهيئة بصلاحيّة تمثيل الدولة اللبنانيّة وحماية مصالحها، ولكون ملف سلامة ينطوي على شبهات اختلاس الأموال العموميّة.
وبالتوازي، قرّرت الهيئة تعيين محامين فرنسيين، لمتابعة التحقيقات في الملف نفسه، في المحاكم الفرنسيّة. واكتسبت تلك الخطوة بالتحديد أهميّة استثنائيّة، نظرًا لاستخدام سلامة جزءاً كبير من الأموال المشتبه باختلاسها في شراء عقارات وأصول أستثماريّة في أوروبا، ما يفرض السعي لاسترجاع هذه الموجودات.
ومنذ البداية، تملّص وزير الماليّة يوسف الخليل، المقرّب أساسًا من حاكم مصرف لبنان، من إعطاء هيئة القضايا موافقته على ملاحقة الحاكم قضائيًا، باعتبار أن المسألة “ليست من صلاحيّات وزارة الماليّة”. وهذا تحديدًا ما استخدمه رياض سلامة في محاكم فرنسا وبيروت، للطعن بمشروعيّة تمثيل هيئة القضايا للدولة اللبنانيّة، بغياب موافقة وزارة الماليّة.
في جميع الحالات، لعبت هيئة القضايا هنا دورها على أكمل وجه، عبر الإصرار على المضي قدمًا في تمثيل الدولة أمام محاكم بيروت وباريس، باعتبار أن قانون تنظيم وزارة العدل أعطى الهيئة هذه الصلاحيّة، من دون إلزامها بالحصول على موافقة الوزارات المعنيّة قبل الادعاء أو التدخّل في الدعاوى المقامة. وتثبيت هذه النقطة، في ملف رياض سلامة، كرّس ممارسة قانونيّة تحصّن الهيئة وتزيد من استقلاليّتها، في وجه أي ضغوط أو عراقيل سياسيّة يمكن أن تستخدم صلاحيّات الوزراء ضد الهيئة نفسها، تمامًا كما فعل يوسف الخليل.
وبالفعل، تمكّنت الهيئة من الحصول على المشروعيّة بعدما صادق مجلس الوزراء على المحامين الذين اختارتهم الهيئة لتمثيل حقوق الدولة اللبنانيّة أمام محاكم باريس، وبعدما لعبت دورها على أكمل وجه في محاكم بيروت، من دون الاضطرار لانتظار موافقة أو توقيع وزير الماليّة يوسف الخليل، الذي لم يكن ليمنح هذه الموافقة أصلًا، في جميع الأحوال.
ومن المهم الإشارة إلى أن تكريس استقلاليّة الهيئة، بمعزل عن هويّة أعضائها، يفتح الباب اليوم أمام باب جديد لملاحقة ومقاضاة مرتكبي جرائم الإثراء غير المشروع واختلاس الأموال العامّة، في ظل تلكّؤ النيابة العامّة الماليّة عن لعب دور فاعل على هذا المستوى، وبغياب سائر الأجهزة الرقابيّة عن المشهد.
الادعاء ضد الدولة…لمصلحة الدولة
سخر كثيرون من دعوى الارتياب التي تقدّمت بها هيئة القضايا لتنحية القاضي شربل أبو سمرا، على اعتبار أنها دعوى ضد الدولة، من قبل الهيئة التي تمثّل مصالح الدولة اللبنانيّة في القضيّة. مع العلم أن هيئة القضايا رفعت في الماضي دعوى مماثلة، ونجحت بالفعل في فسخ قرار قضائي مبرم، هدد ملكيّة الدولة لمساحات كبيرة على واجهة بيروت البحريّة. وكما أشرنا سابقًا، خشي كثيرون من إمكانيّة أن تؤدّي دعوى الارتياب إلى شلّ الملف كليًا، بالنظر إلى عدم اكتمال نصاب الهيئة العامّة لمحكمة التمييز، التي يفترض أن تبت بهذه الدعوى.
النقطة الأهم التي ينبغي الإشارة إليها، هي أن هيئة القضايا ثبّتت –من حيث المبدأ- نقطة إضافيّة في ميزان صلاحيّاتها، من خلال تكريس قدرتها على مساءلة القضاة ووضعهم محل اتهام، حين تخالف الإجراءات القضائيّة الأصول التي يفترض احترامها. ومن هذه الزاوية بالتحديد، ستكون هيئة القضايا قد وضعت القاضي شربل أبو سمرا أمام مسؤوليّاته، بعد المخالفات الفاقعة التي قام بها طوال الأشهر الماضية، والتي ساهمت بتأخير محاسبة سلامة وشركائه، وتحصيل حقوق الدولة اللبنانيّة. وهذا ما يمهّد لمحاسبة أبو سمرا نفسه في المستقبل، ولو بعد تقاعده.
في الوقت نفسه، تمكّنت هيئة القضايا من وقف جميع إجراءات أبو سمرا، بوصفه قاضي التحقيق في الملف، ما سيمنعه من القيام بأي خطوات إضافيّة، يمكن أن تصب في مصلحة رياض سلامة وشركائه. وهذه الخطوة ستحمي الملف من أي عبث في مضمون التحقيقات أو محتواها أو وجهتها، أو حتّى من بعض القرارات الشائكة التي يمكن أن يتخذها أبو سمرا.
أمّا الخوف من فرملة التحقيقات بشكل كلّي، فليس في مكانه لسببين. السبب الأوّل، هو رهان هيئة القضايا على الطعن التي تقدّمت به أمام الهيئة الاتهاميّة في بيروت، ضد قرار ترك رياض سلامة، الذي اتخذه أبو سمرا نفسه. وهذا الطعن، سيكون من شأنه أن يفضي إلى اعتقال سلامة بطبيعة الحال، كما سيمكّن الهيئة الاتهاميّة من التصدّي للتحقيق واستكمال الملف بنفسها، أو إعادة الملف إلى قضاء التحقيق مع طلب تعيين قاضٍ آخر غير أبو سمرا. ولهذا السبب، يمكن القول أن ما قامت به هيئة القضايا، عند تقديم دعوى الارتياب، التي أبعدت أبو سمرا عن الملف مؤقّتًا، كان رهانًا محسوبًا ومدروسًا، وليس قرارًا عشوائيًا قد يطيح بالتحقيق، كما حصل في ملف انفجار المرفأ.
وفي جميع الحالات، وحتّى في حال لم تتمكّن هيئة القضايا من الاستحصال على قرار يقصي أبو سمرا عن الملف، من الهيئة الاتهاميّة في بيروت، فسيكون مصير أبو سمرا التقاعد بعد نحو ثلاثة أشهر، وهو ما سيفرض تعيين قاضٍ جديد. وفي هذه الحالة، ستكون هيئة القضايا قد تمكنت من منع أبو سمرا من لعب أي دور لمصلحة سلامة، خلال الأشهر القليلة المتبقية له في الخدمة في الجهاز القضائي.
في النتيجة، ستُثبت تطوّرات الأسابيع المقبلة مدى صحّة رهانات هيئة القضايا، بالنسبة إلى ملف رياض سلامة وخطواتها الأخيرة بخصوصها. لكنّ الأكيد هو أنّ ما ثبتته الهيئة، من جهة استقلاليّتها وقدرتها على مواجهة انحراف الإجراءات القضائيّة، سيبقى نقطة تُسجّل لصالحها على المدى البعيد. أمّا على المدى القصير، فستبقى الأمور مرهونة بقرار الهيئة الاتهاميّة في 29 آب المقبل، بعد جلسة الاستجواب المقرّرة لرياض سلامة.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها