منى فياض

الأحد ٢٣ أيار ٢٠٢١ - 13:25

المصدر: الحرة

أي حياد مطلوب للبنان كي لا يظل منصة؟

بالنسبة للحقوقيين يوجد فرق بين إعلان لبنان دولة حيادية على غرار المتعارف عليه في القانون الدولي، وبين الحياد بمعنى تحييد لبنان عن الصراعات. 

في الحالة الأولى، الدولة الحيادية هي الصفة القانونية لبلد ما يمتنع عن المشاركة في أي حرب أو نزاع بين البلدان الأخرى، ويلتزم مسافة واحدة من جميع الأطراف المتحاربة مع ضرورة اعتراف الدول بذلك. تضمنت حقوق البلدان الحيادية، من الناحية التاريخية، عدم استخدام أو احتلال أراضيها من جانب أي طرف متحارب، وعلى استمرار العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى المحايدة منها والمتناحرة. ولبنان بهذا المعنى لا يمكنه ان يكون حيادياً، نظراً لانتمائه إلى الجامعة والنظام العربيين، وإلى حالة العداء بينه وبين اسرائيل. 

ذلك أن الحياد، برأي الحقوقي بول مرقص، يتطلّب أن تعبّر الدولة إرادياً وبموجب نصّ قانوني واضح تمارسه كما في النمسا وهي من أولى دول الحياد. في حالة لبنان، يتطلب ذلك تعديل نص دستوري  في مقدّمة الدستور في الفقرة “ب” “أنّ لبنان عضو مؤسّس وعامل في جامعة الدول العربية والأمم المتّحدة وملتزم مواثيقهما”. لذا يصبح من المتعذّر أن يكون لبنان محايداً تماماً، خصوصاً وأنّه انضمّ إلى اتفاقيات هذه المنظمة.  

بالإضافة الى أن إعلان حياد لبنان والاعتراف به، يتطلب مؤتمراً دولياً وموافقة دول الجوار كي يصبح لبنان دولة حيادية . 

لكن السؤال لماذا علينا القيام بكل ذلك؟ لماذا لا نكتفي بممارسة الحياد الذاتي، الذي كان في أصل فكرة قيام الكيان اللبناني ومورس عملياً منذ ذلك الحين. لكننا حدنا عنه في كل مرة انحاز فيها طرف لبناني لصالح طرف خارجي ما، فوقعنا في اللاستقرار والصراعات والعنف.  

والمقصود بالحياد الممارس تاريخياً ما شدد عليه ميشال شيحا، منظّر الوطن اللبناني، عن دور لبنان كصلة وصل بين الشرق والغرب، بما يعنيه ذلك من ابتعاد عن المحاور ولعب دور الوسيط الحضاري.  

المحطة الثانية في الاتفاق على تحييد لبنان كانت عندما ابرم بشارة الخوري ورياض الصلح عام 1943 ما سمي بالميثاق الوطني، كي يضعوا حداً للاختلاف بين المسلمين والمسيحيين، فكرّسا ممارسة العيش المشترك “لأننا محكومون به”. وبذلك توافقا على ان يتوقف المسلمون عن مطلب الوحدة العربية، ويكف المسيحيون عن مطلب الانتداب الفرنسي. فجعلوا شعار الميثاق لا شرق ولا غرب. عملياً الحياد. وتأكيداً لذلك ربط اتفاق الطائف شرعية السلطة بقدرتها على حماية العيش المشترك الذي يشكل أساس العقد الوطني. “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”…. 

انتقد جورج نقاش حينها الميثاق: “سلبيتان لا تبنيان وطناً”. لكن ميثاق دستور الطائف، وبعد 15 عاماً من الحرب الدامية، حسم الأمر، فجعله على شكل إيجابي: لبنان وطناً نهائياً للبنانيين، عربي الهوية والانتماء. يعني رضي المسلمون بالتخلي عن مطلب الوحدة العربية، ومقابل ذلك رضي المسيحيون أن يكون لبنان بلداً عربياً. 

وكان عبد الناصر، قد حيّد لبنان واعترف بخصوصيته. في زمن الوحدة، لم يلتق بشهاب في دمشق ولا هو جاء إلى لبنان، بل نصبت خيمة في منتصف الحدود بين لبنان وسوريا. فتكرّست سيادة لبنان وحياده وخصوصيته بالممارسة عام 1959.  

أيضاً اعتبر لبنان اثناء حرب العام 1967 بلد مساندة وليس بلد مواجهة ولم يشترك بالحرب.  

لكن اتفاق القاهرة (1969)، وبتواطؤ وتهاون لبناني، جعله جبهة المواجهة الوحيدة وأدخل السلاح الفلسطيني. وبدأت سلسلة اختلالات التوازنات الداخلية. فتحول الجنوب الى فتح لاند وتحكّم ابو عمار بلبنان مستقوياً بالمسلمين. لاستعادة التوازن، لجأ الطرف المسيحي الى نظام الاسد، الذي انقلب ضدهم. فلجأوا عندها الى شيطان إسرائيل، فتعرضنا لاجتياح واحتلال عام 1982. وخرج الفلسطيني. لكن ذلك أدى بنا الى دفع أثمان الاحتلال وتداعياته حتى الآن؛ فتحت غطاء مقاومة العدو، تمّ استبدال الاحتلال الاسرائيلي باحتلال إيراني بواسطة شيعية وغطاء سوري وتواطؤ لبناني. فاستحكم بمفاصل الدولة وتسبب بانهيارها بشكل غير مسبوق. 

من هنا جاءت مبادرة البطريرك بالمطالبة بتحرير الشرعية وتطبيق دستور الطائف وقرارات الشرعية الدولية 1559 و1680 و1701، تحت مظلة مؤتمر دولي لهذه الغاية. 

ان إقرار وثيقة اتفاق الطائف – الذي عرقلت سوريا تطبيقه – عنى استبعاد اي عامل يمكن ان يفجّر الصيغة اللبنانية والعيش المشترك، وهي مبادئ مؤسِّسة لقيام دولة لبنان الكبير.  وبديهي أن كل اصطفاف وانحياز لطرف خارجي تسبب، وسيتسبب، بتهديد وجود الدولة نفسها؛ لأنه يضرّ بالعيش المشترك. انحاز لبنان الآن، بفعل سياسة العهد التي غطت هيمنة حزب الله، الى محور المقاومة وأصبح لبنان مجرد منصة لإطلاق المواقف المعادية للدول العربي وللصواريخ على اسرائيل. وآخرها تصريحات وزير الخارجية الذي استقال  ولعبة الصواريخ مجدداً. 

هنا لا بد من التذكير أن تحييد لبنان كان قد تكرّس، بموافقة الجميع، في العام 2012 بما عرف إعلان بعبدا؛ بعد شكوى حزب الله للرئيس سليمان حينها من تدخل مجموعات في الحرب الأهلية في سوريا. وهذا بعض ما تم إعلانه بوضوح وبموافقة الجميع وحصل على موافقة واعتراف المجتمع الدولي: 

 12- تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليميّة والدوليّة وتجنيبه الانعكاسات السلبيّة للتوتّرات والأزمات الإقليميّة، وذلك حرصًا على مصلحته العليا ووحدته الوطنيّة وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب إلتزام قرارات الشرعيّة الدوليّة والإجماع العربي والقضيّة الفلسطينيّة المحقّة، بما في ذلك حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم. 
 

13- الحرص تاليًا على ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانيّة السوريّة وعدم السماح بإقامة منطقة عازلة في لبنان وباستعمال لبنان مقرًّا أو ممرًا أو منطلقًا لتهريب السلاح والمسلحين….  
14- إلتزام القرارات الدوليّة، بما في ذلك القرار1701. 

ومعلوم ان حزب الله ضرب بكل ذلك عرض الحائط. 

الحياد المطلوب الآن، بمعنى التحييد، هو خيار وطني يصونه الدستور، الذي ينص على أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. وعلى هذا الاساس يرتكز خيار الحياد على امتناع أي فريق داخلي عن الاستقواء بالخارج كي يوظف قدراته لصالحه على حساب الصيغة الداخلية والعيش المشترك. لقد دارت الدورة على الجميع ولم يحصد لبنان إلا الويلات والدمار من المقايضة بين جزء من السيادة لصالح الخارج مقابل مكاسب داخلية.  

ان معالجة الحياد اللبناني تتم من منظار ثلاثي: النأي بالنفس والتحييد والحياد. 

آن أوان ان نتعلم أن السيادة لا تتجزأ، وعلينا ان نجعل هذا الحياد، او التحييد، الخيار السياسي الجذري على المستوى الاستراتيجي. فهو يحمي العيش المشترك، ويحصر التعامل مع الخارج انطلاقاً من ولائنا الى لبنان اولاً. بمعنى انه يمكن لأي لبناني ان ينتمي دينياً او عرقياً او ثقافياً الى الجهة التي يريد، لكن ولاءه يكون للبنان فقط. فيمتنع الجميع عن طلب أي مساعدة من الخارج، ويمنع استخدام المال او السلاح كوسائل ضغط لفرض سياسة الآخرين على لبنان.  

العيش المشترك هو ميزة لبنان التفاضلية على اسرائيل التي قد تتفوق علينا وتنافسنا في جميع المجالات الاخرى: تكنولوجيا واقتصاد وسياحة، لكنها تبقى دولة يهودية منقوصة الديموقراطية.  

وعندما يتحفنا البعض بأن فكرة الحياد هي ضد سلاح حزب الله! الجواب نحن لم نخجل من مطالبتنا بأن لا يكون في الدولة اللبنانية سلاح خارج أمرة الجيش، وأن تحتكر الدولة حصراً حق ممارسة العنف الشرعي.  

أما رفض فكرة المؤتمر الدولي لأنه “يمس بالسيادة”. نذكرهم ان لبنان يعيش في ظل قرارات دولية نتجت عن مؤتمرات واجتماعات وقرارات حظيت بدعم دولي منذ اعلان دولة لبنان الكبير 1920، مروراً بالطائف وتفاهم نيسان والقرارات الدولية من القرار 245 وصولاً الى القرار 1559 و1680 و1701، واتفاق الدوحة المخالف للدستور …  

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها