منى فياض

الأحد ١٩ أيلول ٢٠٢١ - 07:02

المصدر: الحرة

التربية على رأس الأولويات

في أواخر أغسطس ومطلع سبتمبر، موعد المدارس، كثر الحديث عن التعليم ومستقبل الأجيال ومآلات النظام التربوي في لبنان في زمن الانهيارات التي فاقمت المشاكل التربوية المزمنة.

أكثر ما لفتني مؤخراً عبارة “”نجَونا”. أطلقتها معلمة هاجرت الى كندا عام 2020، كما ورد في أحد تقارير جريدة النهار.

“نجونا”، من جهنم تقصد. فالعيش في كندا التي لا تحترم فقط حقوق الانسان في دولة القانون، بل تجهد بتوفير الرفاه لمواطنيها، تكشف بؤس العيش في لبنان المقاوم.

مشاكل التربية تشكل أحد أوجه منظومة المشاكل التي تطال مجمل نواحي حياة المواطن اللبناني. بدءاً من وضع المعلمين المتردي، فأغلبيّتهم لا يتقاضون رواتبهم بالكامل، وشريحة كبيرة لم تحصل على حقها بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب.

إلى الأجور التي أشارت اليها أرقام “رويترز” في مارس الماضي، أنّ “معلمي المدارس الحكومية يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، التي فقدت ما يقدّر بـ 90٪ من قيمتها. مما يجعل رواتب المعلّمين تساوي الآن ما بين 1 و2 دولار أميركي للساعة”.

ويرجّح التقرير الصادر عن البنك الدولي في يونيو بعنوان “التأسيس لمستقبل أفضل: مسار لإصلاح التعليم في لبنان”، أن “تؤدّي الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الحالية، وتأثير جائحة كوفيد -19 الصحية، والانفجار الأخير في مرفأ بيروت، إلى انخفاض التمويل المتاح للتعليم”. ناهيك عن أن “الإنفاق الحكومي على التعليم غير كافٍ” أصلاً”.

من هنا بروز مشكلة الهجرة واستنزاف الخبرات. فبعض المعلمين يفضلون مواجهة المجهول على البقاء في لبنان. حتى أن بعض الأهالي سجلوا أولادهم للدراسة خارج لبنان.
وعلاوة على مشكلة هجرة المعلمين الكثيفة، كجزء من الهجرة غير المسبوقة لمختلف كوادر القطاعات المدربة والمتخصصة، خصوصاً في الطب والتمريض والشباب المتخصص بالتقنيات الرقمية الحديثة، عامود ما يعرف باقتصاد المعرفة؛ هناك مشكلة أوضاع الأسر والتلاميذ أنفسهم. 

يكفي انقطاع البنزين وغلاءه، ما يجعل التنقل مستحيلاً على المعلمين وعلى التلاميذ. يضاف عجز الأهل عن توفير الكتب والقرطاسية واللباس المدرسي، ناهيك عن الأقساط. ثم عجز الحكومة عن توفير مستلزمات الصفوف نفسها من إضاءة وتدفئة… مع مشاكل الانترنت والنقص في الكمبيوترات في ظل التعليم عن بُعد.

كل ذلك يهدّد مستقبل لبنان الذي سيفتقد الكنز البشري الذي طالما كان رأسماله الأهم، للعشرين سنة القادمة. 

عند مراجعتي كتاب آلان غرينسبان (Alan Greenspan)، الرئيس السابق للمجلس الفيدرالي المركزي للخزينة الاميركية، le temps des turbulences، أكثر ما لفت نظري كلامه عن أولوية الكائن البشري وأولوية التربية والنظام التعليمي في الاقتصاد.

نصيحته الأولى، واجب الاقتصاديين دراسة الطبيعة البشرية. خصوصا الابتهاج والخوف، لما لهما من تأثير على الاقتصاد. الأمر الثاني تأثير المرحلة الانتقالية التي نمرّ بها بسبب القفزة الكبيرة في التطور التقني الذي غالباً ما يترافق بالفوضى. وقد يلزم الأسواق عدة سنوات كي تتكيف مع قفزات كهذه. ما يثير اضطراب الأجور، فيرفع أجور الكوادر المهرة. ونتيجة ذلك تزداد الفجوة بين أجور هؤلاء والموظفين الأقل خبرة ومهارة. فتعلو الشكوى من اللامساواة في المداخيل.

يقارن بين الدول النامية التي تعرضت، كالولايات المتحدة لصدمة التكنولوجيا والعولمة، ولكن الآثار عليها كانت أقل مما هي عليه في الولايات المتحدة. ويجد أن التفسير الجزئي لهذا الامر، فيما عدا انظمة الحماية الاجتماعية الاكثر نموا في أوروبا خاصة، ظهور فشل وظيفي في النظام التربوي على المستويين الابتدائي والثانوي، أظهرته دراسة أجريت في العام 1995 في مدرسة Lynch school of education  في كلية بوسطن، وبينت أن طلاب المستوى الرابع، يقعون فوق المتوسط العالمي في الرياضيات والعلوم إلا أنهم يقعون تحت المتوسط في نهاية المرحلة الثانوية.

يسميها “الكارثة التربوية” التي لا يمكن إرجاعها إلى عدم موهبة تلاميذنا. ففي عمر 9 و10 سنوات كانت لديهم متوسطات مُرضية وأكثر. “فما الذي فعلناه خلال السنوات السبع او الثماني التي تلت كي يصبح اداءهم بهذه الرداءة mediocrity مقارنة بالبلدان الاخرى؟”

يشرح لنا كيفية تأثير النظام التربوي على الاقتصاد؛ ليستنتج أن الأدوات السياسية التي تسمح بمباشرة مشاكل اللامساواة المتصاعدة الكبرى، هي لا شك التربية والهجرة. مطالباً بتسريع السيرورات، والسيطرة بشكل أفضل على القدرة التنافسية التي قادت تاريخياً تطور التربية في الولايات المتحدة. كما يقترح تسهيل هجرة البشر الاكثر تأهيلاً الى أميركا.

كما نرى الانسان وإِعداده هو الأصل. والدول الغربية تتنافس على استقبال الكوادر المؤهلة. وأميركا تريد المزيد من العقول. وهي دول لا تعاني ذرة من مشاكلنا. بينما يفرّط لبنان بكوادره ولا يبالي مسؤولوه باستنزاف أفضل القدرات والخبرات وطردهم من البلد.

يهدمون كل ما بني من تراث تربوي عريق خلال عشرات إذا لم يكن مئات السنين!؟ يغيرون وجه لبنان الذي كان جامعة العرب ومهد قياداتها.

تعلمنا التجارب العالمية أن النهوض من مجتمع تقليدي فقير إلى مجتمع متطور لم تحصل إلا بواسطة التربية. جميعنا سمعنا بفترة الحكم الميجي التي نقلت اليابان نقلة نوعية كبيرة جعلتها أحد أهم اقتصادات العالم. هناك توافق عام أن التعليم من بين أهم العوامل التي صنعت من اليابان قوة علمية وصناعية. من هنا التشديد على دور التربية والتعليم. إن فكرة الإصلاح السياسي أو الاقتصادي تظل ناقصة ما لم تترافق مع إيلاء التربية ما تستحقه من العناية بإدخال نظمة تربوية قوية وصلبة والتشديد على أولوية التكوين المدرسي ومن ثم الجامعي للناشئة.

عندما نقارن اليابان بمصر في نهاية القرن التاسع عشر، كانت مصر متقدمة على اليابان بعد أن عرفت طريقها نحو التطور خصوصا بعد التلاقح الحضاري الذي تم بعد دخول نابوليون مصر والبعثة العلمية التي رافقته. قام محمد علي بإصلاحات مهمة لكنها مست الجانب المادي وهُمِّش الجانب البشري. بينما قامت اليابان بالعكس، فاهتمت أولا بالجانب البشري وركزت على إصلاح التعليم. ناهيك عن نهضة كوريا الجنوبية الكبيرة بعد صرف معظم موازناتها على التعليم لمدة 20 عاماً. 

الآن مع الحكومة الجديدة، لدينا وزير تربية نثق بكفاءته ونزاهته. ونرجو أن يتمكن من تحقيق بعض الاصلاح. فعلى كاهله تقع مسؤولية ثقيلة عليه مواجهتها. مطلوب العمل الجاد من أجل الخروج من مأزق القطاع التربوي من أجل استعادة بعض التوازن على مستوى التعليم. ان غض النظر عن الانهيار الذي نعاني منه في منظومة التربية والتعليم يعني القضاء على مستقبل لبنان لأعوام قادة. وننتظر منه أن يُصارح المواطنين بخططه وما قد يضع العراقيل أمامه.

لن نفقد الأمل. السوسيولوجي بوتول يقول إن “التقدم في ميدان التفكير حول الظواهر السوسيولوجية لا يحصل إلا في أوقات الأزمات الكبرى. خاصة عندما تهتز المؤسسات التقليدية أو تتغير لحصول حوادث تاريخية تساهم في قلبها على الأقل”.

 لكنه لن يحصل دون هزة يجرؤ عليها من تسلموا السلطة على أمل الانقاذ. ونذكّر أن الأمل بالتقدم يظل ضعيفاً وناقصاً في بلد محتل تتشكل حكومته بتوافق خارجي بين فرنسا وإيران.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها