فرح منصور

الأحد ٥ آذار ٢٠٢٣ - 19:53

المصدر: المدن

التلوّث يجتاح مياه لبنان بأنهاره وآباره: محطات التكرير “عاجزة”

لم يعد يحق للبنان أن يتباهى كثيراً بثروته المائية. فالمياه بحالتها الطبيعية يفترض أن تكون صافية على الأقل، وأن تكون مصدر حياة للسكان، إلا أنها في لبنان خضراء اللون بفعل التلوث والسموم! ولهذا السبب لا يجدر بأحد أن يستهجن خطر انتشار وباء الكوليرا، فهي أقل ما يمكن أن ينتج عن حالة المياه، بسبب توقف محطات تكرير مياه الصرف الصحي عن العمل منذ أشهر طويلة. ولا ندعو إلى الكشف على الأنهار في لبنان، بل يكفي للقارئ أن يستعين بمحرك البحث على الإنترنت ليطّلع على صور نهر الليطاني في البقاع والجنوب أو نهر الغدير في الضاحية الجنوبية لبيروت. مشاهد صادمة لحالة المياه. ولا نبالغ إن قلنا أنها مقززة، وهي نفسها التي تصب في مياه البحر التي يصطاد منها المواطن الأسماك، أو يمارس هوايته في السباحة.

تلوث واضح
اعتاد اللبنانيون رؤية الأوساخ تطفو على سطح المياه على مدار السنة، والسبب تعطّل محطات تكرير مياه الصرف الصحي عن العمل. ووفقاً لما شرحته ياسمين جبلي لـ”المدن”، الدكتورة الجامعية في جامعة البلمند، التي تقدم مجموعة أبحاث متعلقة بتلوث المياه، فإن العدد الأكبر من هذه المحطات ليس مجهزاً لمعالجة المياه بشكل نهائي، التي من المفترض أن تمر بمراحل ثلاث لتكون صالحة للشرب أو لري المزروعات. فالعدد الأكبر من هذه المحطات يعمل على فصل المواد الصلبة من المياه قبل وصولها إلى عمق البحر. وبالتالي، فإن ما يحدث اليوم أن مياه الصرف الصحي تصب بما فيها من ملوثات وسموم في البحر، أو أنها تختلط بمياه الأنهر التي تستعمل لري المزروعات.

وتقول جبلي أن الأزمة تستدعي حلولاً سريعة، وأهمها تحديث العدد الرسمي والنهائي لمحطات التكرير الموجودة على الأراضي اللبنانية، الذي يرجح وجود 78 محطة تكرير جاهزة، و11 محطة قيد الإنشاء، و181 محطة مخططة للإنشاء.

وتضيف “أن خطورة هذه الأزمة بدأت تظهر على الملأ. ففي بعض جولاتها مع الجهات المعنية على الأنهر، أثارت دهشتهم رؤية الحيوانات نافقة على سطح المياه، إضافة إلى انبعاث رائحة كريهة من المياه التي تحولت إلى اللون الأخضر والبني، في حين صادفوا بعض العائلات تنظم نزهات على جوانب الأنهر ويمارسون السباحة فيها”!

..والخطر واضح
في حين أعلن رئيس الحركة البيئية، فضل الله حسون، حالة الطوارئ. وناشد كل المنظمات الدولية لتوفير الطاقة الشمسية البديلة لتشغيل محطات تكرير المياه المتوقفة عن العمل، بسبب حاجتها الكبرى لمادة المازوت، معتبراً أن الأمن المائي مهدد بفعل التلوث الشديد، لأنه بات يصل إلى المياه الجوفية، وبالتالي، إلى فم المواطن، مسبباً الأمراض الفتاكة.

وأضاف حسون “نحن على تعاون مستمر مع الجهات المعنية. ولكن المشكلة الكبرى هي الحاجة المادية لتأمين آلاف وملايين الدولارات لتشغيل هذه المحطات أو صيانتها. كحلول أولية مستعجلة، كان التعاون مع مبادرات المغتربين لتركيب ألواح الطاقة الشمسية لبعض آبار مياه الشرب في بعض المناطق اللبنانية. كما وشدد على ضرورة الحملات التوعوية التي تقوم بها الحركة البيئية بشكل دائم في مختلف المناطق اللبنانية، ويشارك فيها الطلاب والخبراء وبعض الوزارات، حول خطورة هذه الأزمة، التي تستدعي الحلول الطارئة لمعالجتها، إضافة إلى إرشاد المواطنين حول استعمال الفلاتر قبل استعمال المياه.

جهود وزارة الطاقة..
أما المسؤولية الأكبر فتقع حتماً على وزارة الطاقة، التي تواصلنا مع مديرة مكتب الوزير وليد فياض، ريتا شاهين، واختصرت بالقول أن الوزارة “تصب كل جهودها على هذا الملف، الذي تعتبره من أولوياتها، وتسعى لتزويد محطات تكرير المياه بأكثر من أربع ساعات تغذية خلال النهار، باعتبار أن وظيفتها حيوية وتحمي حياة المواطنين”.

وفي حديثنا مع مسؤول في مصلحة مياه بيروت، أنطوان زغبي، الذي أكد أن بعض المحطات، كتلك في زحلة وجونية وبرج حمود والمرفأ، تعمل من دون توقف، لتجنب فيضان المياه على السكان، لكن العبء بات ثقيلاً على جميع الجهات المعنية، لعدم قدرتها على تأمين المبالغ اللازمة لشراء مادة المازوت، بعد أن وصل سعر الطن الواحد إلى حوالى الثمانين مليون ليرة لبنانية، غير أنه لم ينف أن معظم المحطات متوقفة عن العمل منذ ستة أشهر، بسبب تقنين الكهرباء. وهي بحاجة لأربع وعشرين ساعة من الكهرباء المتواصلة.

وهذا ما يطمح إليه من خلال التعاون مع الاتحاد الأوروبي، الذي يخطط  لتشغيل هذه المحطات خلال شهرين، وذلك بتركيب ألواح من الطاقة الشمسية البديلة.

وزير البيئة: أزمة متفاقمة
بما يخص هذا الملف أشار وزير البيئة، ناصر ياسين، لـ”المدن”، أن تلوث الأنهار أزمة قديمة، تفاقمت مع تدهور الوضع الإداري والمالي خلال هذه السنوات. كما أن كل الوزارات معنية على حد سواء بهذه الأزمة: وزارة الصناعة، الزراعة، الأشغال والنقل، وعلى رأسها وبشكل رئيسي وزارة الطاقة والمياه.. كلها تلعب دورًا في منع التلوث، والبلديات أيضاً.

وشرح ياسين دور وزارة البيئة في ضرورة الكشف عن مصادر التلوث، ومنعها من الوصول إلى مياه البحر، ولو عبر اللجوء إلى القضاء اللبناني. وأن الوزارة تعمل جاهدةً مع مصلحة نهر الليطاني في رفع التلوث عنه، سواء كان صناعياً أو مجاري أو أسمدة أو نفايات. وأنها تسعى إلى تجهيز مختبر متنقل بالتعاون مع الجامعة اللبنانية لإجراء فحوص مخبرية بشكل دوري على عينات مياه من مختلف المصادر. هذا وقد اعتبر ياسين أن وزارة الطاقة والمياه المعنية لا تقوم بحملات زيادة الوعي لدى المواطن، حول تكاليف معالجة مياه الصرف الصحي.

الحلول الأخيرة
مشاكل عدة منعت تشغيل محطات تكرير المياه، وأهمها الأعطال، أو عدم تمديد الشبكات، أو عدم مطابقتها للمواصفات المطلوبة، حسب المدير العام لمصلحة نهر الليطاني، الدكتور سامي علوية، الذي شرح لـ”المدن”، أن كل هذه المشاكل انحصرت في عدم قدرة الجهات المعنية على تأمين المبالغ المالية المطلوبة، فيما انقطاع التيار الكهربائي وارتفاع أسعار المحروقات فاقم هذه الأزمة، وحال دون تشغيل محطات تكرير المياه الجاهزة.

ويتابع علوية “حاولنا جاهدين معالجة هذه الأزمة مع وزارة الطاقة والسفارة الإيطالية، ولكن كلفة التشغيل باهظة جداً، ولا حلول أمامنا إلا بتطبيق قانون المياه، حيث تطلب مؤسسات المياه من المواطنين، كما في معظم دول العالم، تأمين إيرادات لمعالجة مياه الصرف الصحي.. أو اللجوء لدراسات أخرى بديلة لمحطات تكرير تعمل على كمية منخفضة من المحروقات، ولكن تبين أن محطات تكرير المياه كبيرة جداً وتستهلك طاقة عالية”.

إذاً، استمرار وصول مياه الصرف الصحي إلى المياه الجوفية، واختلاطها بمياه البحر سيحول مياه لبنان من نعمة إلى نقمة، وستؤدي حتماً إلى نتائج كارثية. وربما ينتظرنا في المستقبل القريب انتشار أوبئة فتاكة جديدة، وارتفاع في حالات الإصابة بالأمراض السرطانية، في ظل انحلال القطاع الصحي في لبنان.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها