ملكار الخوري

الثلاثاء ١٣ تموز ٢٠٢١ - 11:01

المصدر: Mon Liban

الثقافة والفن: بصيص أمل في زمن الانهيار

فيما تترنّح آخر مقوّمات ومؤسّسات الدولة اللبنانية تحت ضربات النهار، قد يسأل سائل عن مبرّر التطرّق إلى الثقافة والفنّ في وقتٍ تتراجع أولويات الناس من أعلى هرم (creative activities) Maslow إلى أسفله (تأمين الاحتياجات الأساسية: مأكل، مشرب، راحة)؟
I
منذ ما يقارب السنة، بدأت بقراءة منشورات الندوة اللبنانية (Le Cenacle Libanais) التي أسسها ميشال الأسمر عام 1946 والتي إستمرّت حتى العام 1984، والتي شكَّلت تقاطع أدبي/ثقافي/سياسي وخلقت دينامية معينّة.
فاجأني غنى المواضيع، والرؤيا التي عبر عنها كبار المفكّرين الضيوف الذين استضافتهم الندوة. مواضيع ورؤى تجعلك تستعجل المستقبل حينها.
من ثم، توالت مشاهد الانهيار على الشاشات، أناس يتقاتلون على أكياس السكر، ومستوعبات الزيت. أرتال من السيارات تنتظر أمام محطّات البنزين، انقطاع الدواء والمواد الطبّية الأساسية، تفلّت شبه كلّي من قيود الأخلاقيات وغيره.
تسائلت: كيف لمجتمعٍ عرف زخمًا فكريًا وثقافيًا كالذي احتضنته الندوة اللبنانية أن ينتهي إلى ما آلت إليه الأحوال؟
الجواب، وبكلّ بساطة أنّه لا يمكن فصل الثقافة والفنّ عن المسار التراجعي لأي شعب أو مجتمع، كونهما ركنًا أساسيًا في صناعة الهويّة الوطنية، والحسّ بالانتماء، the sense of belonging and the sense of ownership.
أذكر على سبيل المثال مؤلّفين موسيقيين وكتّاب طبعوا مجتمعاتهم بروح الهويّة الوطنية أو ساهموا في الحفاظ عليها في أوقات الشدة والخطر:

  • فريديريك شوبان، وآدم ميكييفيتش في بولونيا
  • ريشارد فاغنر ويوهان غوتيه في ألمانيا
  • جويزيبّي فيردي ودانتي أليغييريه في إيطاليا
  • ألكسندر بوشكين وريمسكي كورساكوف في روسيا
  • ربيندراناث طاغور في الهند
  • ليوبولد سينغور في السنغال
  • يوسف السودا/سعيد عقل/مَيّ المرّ/شارل قرم/موريس عوّاد في لبنان.
    من الضروري الإشارة إلى أن المقصود بالهويّة الوطنية في هذا السياق، ليس المقاربة الإقصائية أو العنصرية التي انتَهَت إليها معظم القوميّات، بل تحديد منظومة القيم والمبادئ التي تحدّد هذه الهويّة والتي تتظهّر عبر الثقافة الوطنية والمحلية:
  • ماذا يعني أن نكون لبنانيين؟
  • ما هي القيم والمبادئ التي نعتمدها؟
  • كيف نعبّر عنها؟
    II
    إذا نظرنا إلى الثقافة والفنّ من هذه الزاوية، يصبح الانحلال الثقافي أكثر خطرًا من الانهيار الاقتصادي لسببين:
  • معالجة الانهيار الاقتصادي عمليّة تقنية، تتطلّب خبرات تقنية يمكن استقدامها من الخارج، وتحقيق نمو اقتصادي خلال سنوات. أمّا النمو الثقافي والهوية الثقافية فعملية تراكمية محليّة تتطلب أجيالاً.
  • في أوقات الانهيار الاقتصادي ممكن أن يعتمد شعب أو مجتمع على المساعدات الخارجية ولو أتت بجرعات محدودة. في حالة الانهيار الثقافي لا بديل، كون الثقافة والهويّة هما نتاج محلّي.
    III
    قد يسأل سائل: كيف لنا القول بأننا نعاني من انهيار ثقافي، ولبنان قد أعطى خلال قرن ونيّف عباقرة وكبار أمثال مارون عبّود، ميشال طراد، سعيد عقل، الأخوين رحباني، توفيق يوسف عوّاد، موريس عوّاد، زكي ناصيف، جوزيف حرب، الإخوة بصبوص (ميشال والفريد ويوسف)، وغيرهم.
    أوليس هؤلاء، بما يمثّلون، نهضة ثقافية عبَّرت عن قيم ومبادئ وتطلّعات ساهمت في رسم هوية محددة وأرست مستوى نوعيًا من الثقافة والذوق والجمال؟
    قد يكون الجواب للوهلة الأولى، نعم. لكن التعمق في واقع هؤلاء وسياقاتهم، يوحي بأنهم لم يكونوا سبباً بل نتيجة.
    نتيجة مناخ توفر خلال المئة العام التي سبقت وجوده، شكّل منصة للعلم:
  • قرار المجمع اللبناني (مجمع سيّدة اللويزة) عام 1736 بتعميم التعليم،
  • حركة الإرساليات وازدياد التبادل الثقافي مع الغرب في القرن التاسع عشر.
  • انتشار المدارس والكليات الجامعية (مدرسة عين ورقا-غوسطا، مدرسة عينطورا، الكلية البروتستانتية السورية-AUB، الجامعة اليسوعية، مدارس الشويفات وطرابلس، والداوديّة، والكلية العاملية. يذكر كتاب «حسر اللثام عن نكبات الشام» أنه أحصيت في عام 1895 في لبنان نحو 330 مدرسة موزّعة على أكثر من ألف قرية في أنحاء متصرفية جبل لبنان.
    أدّت هذه الحركة إلى رفع مستوى العلم، وخلق حاضنة مجتمعية تلقّفت وجود هؤلاء الكتّاب والفنانين ونتاجاتهم الفكري والفني.
    إذا قبلنا بهذه الفرضيّة، يصبح السؤال التالي (وبحد ذاته، قبل الإجابة عليه مخيفًا):
    إذا كان تحقُقْ هذه النهضة النوعية والكمية ابتداء من سنة 1900 تطلب كلّ ما سبق؛ ما هي نتائج ما نعيش الآن على المئة سنة المقبلة على الصعيدين الثقافي والفني؟
    ما هو التفسير لانحدارنا من أعمالٍ بمستوى الأخوَين رحباني، إلى مستوى الأخوَين علي وحسين الديك؟
    كيف يكون الإنتاج الشِّعري في لبنان بمستوى سعيد عقل، وميشال طراد، وموريس عوّاد، وجوزيف حرب، فيمسي اليوم بمستوى شعراء “السَحّْ الدَحّْ نْبو” أصحاب الرباعيات (أو الرباعيات والنصف) ذات الوزن المكسور والتي تفتقر إلى الخيال؟
    IV
    نواجه اليوم خطرَين:
  • تلاشي الحاضنة التعليمية مع اشتداد الأزمة الاقتصادية وإنعكاس هذه الأخيرة على كلفة التعليم والقدرات الاستيعابية للمدارس الرسمية والجامعة اللبنانية؛ وارتفاع كلفة التعليم الخاص؛ وهجرة الأساتذة أصحاب الكفاءات.
  • الغزو الثقافي. كان ذلك يتحقّق سابقًا بواسطة إبادة الجماعة وهدم معالمها (داعش في تدمر 2015؛ وطالبان في أفغانستان-تفجير تمثالي بوذا 2001). وحتى في هذا السياق، لم يكن الأمر كذلك دومًا: إسبارطة احتلت أثينا خلال الحروب البيلوبونيزية لكن إسبارطة إنحنت أمام الثقافة والعلم، وبقيت أثينا.
    لقد تطوَّرت الأدوات اليوم وأصبح وقعها أكثر إيذاء: فالغزو لم يعد قتلًا وتدميرًا، بل تحويرًا وتغييرًا في الهويّة الثقافية. يتحقّق هذا الغزو الثقافي من خلال ضرب الذوق العام، والمعايير الجمالية والنوعية للفنّ من خلال إغراق المجتمع بكميات من الأعمال الهابطة (مسرح، أغنية، شعر، أعمال تلفزيونية) تحمل قيمًا ومبادئ خاطئة.
    صحيح أن الحياة في تطورٍ مستمرّ، ومن ضمن هذا التطوّر مضمون الهويات المحلية كونها نتاج تفاعل مستمرّ بين الأشخاص والمجموعات. لكن في الحد الأدنى، أن يكون هذا التطوّر اضطراديًا، لا رجعيًا.
    حتى التعبير عن خصائص أو مفاهيم اجتماعية، بغض النظر عن الموقف الشخصي منها، دليل على المستوى الثقافي والفكري العام، وهو أيضاً في تراجع مخيف حاليًا.
    فلنأخذ مثالًا على ذلك أغنية “قمرة يا قمرة” للأخوَين رحباني:
    “حبيبك وصّاكِ.. تَ تضلّي بالبيت
    ومين ما حاكاكِ.. ما تتركي البيت
    ما بدّو تشوفي حدا.. ولا تردّي عَ حدا
    وكلّ البواب مسكّرة.. هيك الهوى يا قمرة”
    يصف هذا المقطع ديناميكية العلاقة بين الرجل والمرأة في موضوع الحب، في مجتمع معيّن (بغض النظر عن مدى قبولنا، أو عدمه لها). ويتحقّق هذا الوصف بطريقة شاعرية، ولحن وإيقاع بسيطان، يدخلان القلب والعقل دون إستئذان.
    فلنأخذ مثالًا آخر، يتمحور حول نفس الموضوع، أغنية “جمهورية قلبي” لمحمد سكندر:
    “شيلي الفكرة من بالك أحلالك/ ليش بتجيبي المشاكل لحالك/ نفرض بقبل تشتغلي/ شو منعمل بجمالك/ وبكرا المدير بيعشق وبيتحرك إحساسو/وطبيعي إني انزل اهد الشركة عراسو.”

    حسنًا،
    ليس الفنّ الهابط بالأمر الجديد، لكنه أصبح اليوم القاعدة.
    يكفي النظر كمثال إلى الأعمال الغنائية المشغولة بجدية إن على صعيد الشعر أو اللحن والتوزيع الموسيقي، ونسبتها من مجمل ما يتداول في الأسواق.
    بالعودة إلى الإنهيار الثقافي ضمن السياق العام: ما العمل، هل نستسلم؟
    V
    أعود إلى لائحة الأسماء التي ذكرت في بداية المقال. المشترك بينها هو:
  • وجود عمق ثقافي وتعليمي سمح بوجودهم وتفاعل المجمتع الإيجابي معهم.
  • عنصر المأساة: ذاكرة الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي هي مصدر مهم من مصادر الإبداع والإنتاج الفكري والثقافي والفني.
    العنصران موجودان راهناً: واحد بحد مقبول، وأعني به من هم بعمر 30 سنة وما فوق.
    والثاني، حدّث ولا حرج، حيث أن الدولة اللبنانية لم تبخل قطُّ في هذا المجال.
    إذًا، ما العمل؟
    1- الحفاظ على المستوى الشخصي الثقافي والفنّي، ورفض أي مساومة على ذلك.
    2- الاعتماد على/ وتشجيع المبادرات الفردية: مبادرة موقع MonLiban في النشر الأسبوعي لروابط موسيقى كلاسيكية مرفقة بمقالٍ تعريفي حول المؤلّف والمقطوعة الموسيقية. وتهدف هذه المبادرة إلى بثّ بعض من الجمال وسط الأزمة التي نعاني منها جميعًا، بالإضافة إلى الترويج للموسيقى الكلاسيكية.
    3- المبادرات الجماعية: تكتّلات أفراد أو مؤسّسات (دور نشر، مطابع، مكتبات…) تسعى إلى استكشاف المواهب الشابة، حضنها ودعمها بما أمكن. وهنا أذكر مثلَين:
     التعاون بين مؤسّسة موريس عوّاد وإذاعة صوت لبنان، لإعادة بثّ برامج إذاعية لعوّاد تعود إلى سنوات الحرب (1976-1978). الهدف الرئيس من ذلك هو إعادة التذكير من جهة بهذه الأعمال وتعريف الجيل الجديد عليها؛ وكذلك والإشارة إليها كنموذج عن مستوى الإنتاج الفكري الواجب الحفاظ عليه بالحد الأدنى، وتخطّيه عند الإمكان.
     إطلاق “جايزة موريس عوّاد للشِّعر لْ لبنان” بالشراكة مع دار سائر المشرق. والهدف منها تشجيع الجيل الجديد على كتابة ومتابعة الشعر اللبناني، ورفع الستوى الثقافي والفكري العام، واكتشاف المواهب الجديدة.
    4- المبادرات المؤسّساتية: لا إمكانية للاتّكال على مؤسّسات الدولة. إذًا لا بدّ من التوجّه إلى المعاهد الثقافية الأجنبية الموجودة في لبنان والتواصل مع غيرها في الخارج، لتقديم الدعم المادي لحماية وتطوير المستوى الثقافي.
    لا خلاص من دون الثقافة والفنّ والفكر. فهذه، هدفها ترويض الوحش الكامن في داخل كل منّا، وتنمية الحسّ بالجمال والذوق والرقيّ.
    هذا الأخير، يطبع كل منّا بمعايير عادة ما تكون عالية، لا تلبّي شروطها سوى الأعمال العالية الجودة. وهذه، تتطلّب مجهودًا جديًّا، وغالبًا ما تكون نتيجة تراكم ثقافي وعلمي، وخُبُراتِيّ، ولا تأتي فرادةً، بل ضمن رؤى محدّدة. وهو حتماً ما ينقصنا اليوم.
    إلى العمل!

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها