منى فياض

الأحد ٢٧ تشرين الأول ٢٠١٩ - 08:39

المصدر: الحرة

الثورة الجميلة.. لبنان موحد بلا طائفة

للأسبوع الثاني، يوما بعد يوم، نظل برفقتهم مفتونين بجمالهم، بإنتاجهم الفني وشعاراتهم والغرافيتي التي رسموها على الحيطان، وأزيائهم ورقيهم.. مترافقا مع قهرهم وفقرهم وغضبهم لكرامتهم. كل ذلك يشدنا كي نظل معهم في الساحات أو أمام الشاشات؛ مع رقصاتهم ودبكتهم ورفضهم للذل. نهمل طعامنا لأننا نلتهم كلماتهم ونصم آذاننا إلا عن أغانيهم وننام ونصحو على صوت موسيقاهم وأهازيجهم وشتائمهم التي تحولت أنغاما.

إنه السحر؛ التحول الكيميائي بقدرة ساحر اسمه لبنان. هيأ جميع المواد والمكونات في خلطة باتت جاهزة بانتظار الشرارة الكهربائية الصغيرة. مجرد 20 سنتا وظهر المواطن اللبناني اللا-طائفي الجديد لدولة جديدة ستتكون وتولد بالرغم من التهديد والقمع والعنف والدم الذي قد يهدر.

إنه زمن الثورة التي اكتملت والذي لا يعاش سوى مرة. ذلك أن الانتفاضة السابقة كانت ثورة بجناح واحد. الآن اكتملت أجنحتها الطائفية جميعها. لذا شغفنا بملاحقتهم في الساحات والمناطق والمدن البعيدة وتلك القريبة. نستمع لردياتهم التي تحيي جميع المناطق المفترضة أنها متعادية ومتباعدة سياسيا وطائفيا. حتى القراءة أصبحت مجرد نظرة سريعة على العناوين وبضعة أسطر لأننا ننهمك بقراءة وجوههم وتعابيرها؛ وجوه شابة نضرة، وجوه جميلة ووجوه فرحة. وجوه رضّع وأطفال من جميع الأعمار. وجوه هرمة ووجوه متعبة، وجوه يائسة ووجوه غاضبة، وجوه مرضى، ووجوه ممتلئة صحة، وجوه خالية من الأسنان وأخرى متألمة إلى جانب الثائرة وتلك المستبشرة.

إنهم شباب في معظمهم. وهذا أمر طبيعي، فهم الفئة السكانية الغالبة والرافضة للواقع. لكن يرافقهم الأكبر سنا الخجلون من قبولهم تلك الطبقة الحاكمة وانتخابها. شابات وشبان يملؤون الساحات. كبارا وصغارا، طلابا وعمالا، فقراء وميسورين، سليمي الجسد وأصحاب حاجات خاصة. جميعهم تركوا أعمالهم وبيوتهم ونزلوا الساحات. لقد طفح بهم الكيل.

عابوا عليهم تبادلهم القبلات: فساد أخلاقي. لكن أخلاقه المنتقدين تحمي الفساد المالي الذي يفتك بصحة اللبنانيين وخبزهم وكرامتهم.

لم نصدق أن هذا سيحصل وبهذه السهولة والسرعة. إنه تراكم الغضب من تهديد الناس في معيشتهم وحياة أطفالهم ومستقبلهم الصحي والدراسي والاجتماعي. شعار الناس: علم وخبز وحرية.

كثر رددوا أنهم يرفضون أن يعيش أطفالهم الطفولة التي عاشوها ويرفضون أن يرث أطفالهم هذا الـ”لبنان” الذي لا يشبه لبنان الذي في بالهم. حكت إحدى الأمهات أن أطفالها الصغار الذين علمتهم أن لا يبكوا إلا عند الوجع، سألوها عندما رأوا دموع الجندي الذي بكى لاضطراره لتنفيذ الأوامر بالوقوف ضد شعبه: لماذا يبكي يا ماما؟ هل هو موجوع؟ “أجل” أجابتهم: إنه موجوع، موجوع على الوطن. بلدنا موجوع. انفجرت الأوجاع جميعها.

لبنان في الشارع، شباب وفتيات الجيل الجديد، جيل الميلينيوم بذهنية جديدة سلمية مدنية وطنية تعلمنا معنى الحرية والاستقلالية. افترشوا الطرقات والساحات خروجا على قطعان الطوائف. نزلوا أفرادا مستقلين ضد الزعيم هاتفين للبنانيتهم لوحدتهم الوطنية.

قال طالب: الدرس الوطني الآن أن نبقى ونصمد في الشارع، الدرس في الجامعة والمدرسة يعوض، لكن ما يحصل الآن لا يعوض. نريد أن نكتب التاريخ لا أن نتعلمه في الكتب.

عندما سئلت سيدة: ماذا تريدون منهم؟ “لا نريد منهم شيئا” أجابت. وأضافت: “من ينتظر أن ننزل إلى الساحات ليلبي مطالبنا غير مؤهل للاستمرار. نريدهم أن يرحلوا ونريد سلطة بديلة وانتخابات جديدة. لا نريد أن نرث سياساتهم الطائفية التقسيمية. نريد أن نعيش بكرامة”.

موتونا وموتوا لبنان. أحدهم قال “أريد أن أموت هنا، قتلوا أبي المريض بالسرطان ولم يستقبلوه في المستشفى”.

مطلب إعادة المال المنهوب والمحاسبة على كل لسان مع طلب دعم دولي من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى الكشف عن أموال السياسيين. يوميا يجوبون الساحات والطرق حاملين الأكياس لجمع النفايات، “بدنا نضف حالنا”، ننظف صورتنا التي تدهورت عن أنفسنا وأمام العالم.

يقولون بوضوح إنهم يعلمون أن تركهم الساحات دون تحقيق المطالب سيعني قمعهم لأعوام كثيرة مقبلة وربما قتلهم. يسأل مواطن: ينصبون الأحكام باسم الشعب اللبناني. طيب أين هو الشعب اللبناني؟ كم تقدر عدد سكان لبنان؟ وكم تقدر عدد الذين على الأرض؟ أكثر من النصف؟ طيب هيدا الشعب اللبناني نزل ضدهم؟ ماذا ينتظرون ليستقيلوا؟ أي شرعية لسلطة نصف شعبها على الأرض؟

الشعب اللبناني نزل رافضا الانتماءات الحزبية والطائفية. لم يعودوا درزيا وسنيا ومارونيا وأرثوذكسيا وشيعيا وعلويا وكاثوليكيا. صرخوا: “نحنا بلا طائفة”. فابتهجوا ورقصوا وغنوا فرحا بوحدتهم التي طالما عملت الطبقة السياسية على ضربها. تبين أن الحواجز بينهم وهمية.

كيف ردت مكونات السلطة؟

للأسف أكدت الورقة التي أعلنتها الحكومة إمعان قوى الحكم التمسك بالسلطة واستغلالها. فتصاعد غضب المتظاهرين: إسقاط المنظومة السياسية برمتها. إذ كيف استطاعوا فجأة تقليص العجز إلى 0,6 في المئة؟ لماذا انتظروا سنوات للقيام بذلك؟ وهل ثرواتهم المتراكمة هي من رواتبهم الرسمية التي خفضوها أم من الصفقات والمخصصات والمحاصصات، التي تريد إصلاحاتهم تعزيزها عبر اقتراح خصخصة القطاعات المنتجة تحت إشرافهم وتنفيذ مشروعي أليسار وألينور (جنوبي وشمالي بيروت) لوضع اليد عليها قبل مغادرتهم تماما كما صفقات الغاز والبترول الذي لا يزال في البحر.

أوردت بعض المصادر أن الهدر يقدر بـ 800 مليار دولار منذ التسعينيات حتى الآن. وبدل تفعيل القوانين ورفع اليد عن القضاء والسماح للمؤسسات الرقابية العديدة القيام بواجبها اقترحوا لجنة “سوف تدرس” مكافحة الفساد.

بدت الورقة بمجملها مجرد تجميل وتأجيل للمشكلة.

في الوقت ذاته جربت السلطة توريط الجيش اللبناني مع المتظاهرين، الأمر الذي تفادته القيادة بحكمة ورفضه الناس لثقتهم بجيشهم والتفافهم حوله.

ثم ظهر رئيس الجمهورية في شريط معد ومسجل بخطاب ربما كان يصلح لليوم الأول من الحراك شرط تنفيذ إصلاحات من نوع إقالة الوزراء المستفزين للشعب ودفع أموال الضمان الاجتماعي والمستشفيات وأجور العمال والأساتذة بدل اقتراح 20 مليار توزع على الفقراء من قبل حكومة فاقدة الصدقية.

في هذا الوقت، وجد “حزب الله” نفسه في وضع مستجد ومرتبك في مواجهة الشعب اللبناني. خطاب نصرالله الذي “تساهل” مع التظاهرات و”تفهمها”، أنهاه بتهديد اللبنانيين ومعتبرا أنهم أبدوا رأيهم وليعودوا إلى بيوتهم بانتظار الإصلاحات وإلا فإنه سينزل إلى الساحات (يعني احتلالها) ولن يخرج منها. وهذا ما ضاعف حركة الاحتجاج.

ثم بدأت محاولات التخويف والاعتداء على المتظاهرين في بنت جبيل وصور والنبطية واقتحمت زعران الدراجات ساحة رياض الصلح فاعترضها الجيش. والمحاولات لإثارة النعرات ولتقسم الشارع مستمرة عبر منظمات قريبة منه أو تدعي الحياد. كل ذلك لن يساهم سوى بفضح صورة “حزب الله” أمام جمهوره الذي كان ينزهه عن كل فساد.

واجه جمهوره بالضرب والإهانات. في النبطية يعلو صراخ امرأة بوجه ميليشيا رئيس البلدية المقرب من الحزب الذين ينهالون عليهم ضربا: “هيك بقللك الحسين! هيك بقلك الحسين!”.

وآخر: “سرقونا من التسعين (1990 عام انتهاء الحرب الأهلية في لبنان) حتى الآن. نبيه بري يقول: من يجرب المجرب يكون عقله مخرب. جربناهم من التسعين حتى الآن. إلى متى سننتظر بعد؟”.

ثم يسأل من يواجه الانتفاضة: “من أين المال للماء والسندويشات (التي يجمع المتظاهرون المال من بينهم لشرائها)”. غافلين عن مليارات الطبقة الحاكمة؟

“السرقة تكون بكمية محدودة أما النهب فغير معقول، لماذا يحميهم السيد نصرالله؟ نحتاج إلى دعم دولي إلى محكمة دولية”. عندما يهتف شبان “حزب الله” “مقاومة مقاومة” بوجه متظاهرين يهتفون ضد “حكم الأزعر”، معنى ذلك أن “المقاومة” تحمي “الأزعر”.

يقول أحد المتظاهرين: “نحن صبرنا 30 سنة، “حزب الله” بقي بالشارع سنتين، ونحن أيضا سنبقى سنتين في الشارع. ليس لدينا ما نخسره، مشكلتنا معكم أنكم فاسدون. تتهموننا بالمؤامرة والعمالة لإسرائيل، لماذا؟ لأن مطلبنا بسيط: محاربة الفساد”.

على كل حال موقف “حزب الله” هذا سيكون من العوامل المساعدة على إظهار حقيقة كون الحزب جسما لبنانيا منقطعا عن هموم شعبه وينتمي لمنظومة أخرى. في تسجيل لأحد أعضاء الحزب يحاول إقناع رفيقه بعدم النزول إلى الشارع: “نحن يا صديقي أصحاب الولاية نتعبّد بالتكليف وبكلام السيد حسن. عندما يخرج كبيرنا ويقول ليس لنا مصلحة في التظاهرات، فكيف تريدني أن أنزل وأصرخ في هذه التظاهرات؟ كيف تريدني أن أسقط العهد، الذي تريد إسرائيل وأميركا إسقاطه؟ هناك رزمة إصلاحات، فعندما يبدؤون بتنفيذها سيقول السيد حسن للناس تفضلوا وعودوا إلى بيوتكم، ونحن سنكمل الطريق وسنحارب الفساد”. ويضيف بأنه حين يرفض المتظاهرون الخروج من ساحة الشهداء، “سنقلب المعادلة وننزل ونملأ الساحتين بوقت واحد، اسمع يا حسين. فهمت يا حبيبي، نحن أصحاب الولاية وما يقوله السيد حسن سنمشي به. وإذا جعنا معليش يا حسين، “حزب الله” أشبعنا كرامة وعزّة”.

مصاب “حزب الله” وإيران كبير. عبرت عنه بتهديد وغضب وكالة “مهر” الإيرانية وحذرت اللبنانيين بأن “مهرجاناتكم سوقية”.. و”لولا نصرالله لكنتم ولاية من ولايات “داعش”!. وربطت بين العراق ولبنان على اعتبار أنها “مؤامرة لإسقاط هيبة الدين وإسقاط الحكومة وجلب الفتنة والحرب الأهلية”. ثم هددت: “احذروا غضب الحليم…”. وحملت عناوين صحيفة الأخبار المقربة من “حزب الله” نفس التهديدات.

في الخلاصة

قام اللبنانيون بتمارين عدة على الثورة بدأت منذ العام 2005 مرورا بالعام 2015 وحتى الآن. واجهتهم السلطة بجميع أسلحتها، من قمع مباشر إلى تفخيخ متخفي مرة بلباس طائفي ومرة مذهبي ومرات ترهيبي وقمعي أو ترغيبي. هذه المرة لن يخدعوا.

هذا الجيل الذي نشأ على الانقسام والصراعات والتدهور الاقتصادي والفساد في وقت نجده منفتحا على العالم وقيمه الإنسانية عبر وسائط الاتصال الرقمية، الذي يتمتع بقدرات كبيرة على مستوى الإنجاز والابتكار والقادرة على المنافسة في الميادين التقنية الجديدة، يفقرونه ويقمعونه. لذلك يرفضهم ولن يتراجع عن ذلك. هذه ثورة اللبنانيين في جميع بلدان المهجر. ثورة أثارت إعجاب العالم.

الفرق بين 2005 و2019

فرق في الأهداف: في 2005 انتفاضة استقلال وإخراج الجيش السوري مع مطالبة بدولة مدنية بشكل غير متبلور.

الهدف في 2019: استعادة الدولة من يد الطبقة السياسية الفاسدة عموما والمهيمنة، بتحالفها مع “حزب الله” الذي يجير الدولة اللبنانية لمصالح إيران.

اختلاف الجمهور: جمهور 2005 مكون من مختلف الطوائف اللبنانية لكن معظم البيئة الشيعية المتحلقة حول الثنائية لم تشارك، بالإضافة إلى انفصال نواة مسيحية وازنة عن انتفاضة 2005 وتحالفها مع حلف 8 آذار المتحالف مع النظام السوري.

الآن اجتمعت “الشوارع” كما تسمى، أي معظم المواطنين اللبنانيين باختلاف انتماءاتهم للمطالبة بإخراج الطبقة السياسية المتحالفة مع “حزب الله” من السلطة.

المهمة ليست سهلة ولا ميسرة ومعرضة للعنف غير المسبوق لكن التراجع أخطر من الاستمرار.

وعلى رأي الصحفي الأردني عبدالهادي المجالي: “لبنان ليس وجه نانسي عجرم، ولا فستان أليسا، ولا ألحان راغب علامة.. وهو ليس ذاك الدلع في لهجة صبية، خرجت من (جونيه) أمس كي تلتحق بأصدقائها في المسيرة، هو بوصلة العالم العربي وحين تهتز شوارعه فعليك أن تعرف، أن انعكاسات هذا الاهتزاز ستصل عواصم وبلدان كثيرة في المنطقة”.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها