سام منسّى

الأثنين ٢٤ نيسان ٢٠٢٣ - 10:36

المصدر: الشرق الأوسط

الجيوش الرديفة وحرب الإخوة في السودان

غلب الانطباع التفاؤلي بدخول الشرق الأوسط مرحلة تبشر بتبريد حدة الخلافات والنزاعات المسلحة غداة الاتفاق السعودي – الإيراني، بعودة العلاقات بين البلدين وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. إنما يبدو أن مناخ المنطقة ما زال يفرز ذبذبات مضادة للاستقرار التقطها حكام السودان ودخلوا مساراً يصعب التكهن بمآلاته إن لم يوضع حدٌ للنزاع المسلح العنيف بين الجيش وقوات «التدخل السريع»، الذي قد يتحول إلى حرب مدمرة في بلد يعاني أساساً صراعات كيانية استنزفت موارده وعطلت المشاريع التنموية لصالح الإنفاق العسكري، من انفصال دولة الجنوب، والنزاع في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، إضافة إلى معضلة دارفور.
القتال الحالي يأتي بعد سلسلة من المشاكل أعقبت إطاحة الرئيس عمر البشير عام 2019، ومطالبة المدنيين بدور في مشروع الانتقال إلى حكم ديمقراطي، فتشكّلت حكومة مشتركة من المدنيين والعسكريين سقطت لاحقاً بفعل انقلاب عسكري آخر في أكتوبر (تشرين الأول) 2021. في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وُضع إطار لاتفاق حول نقل السلطة إلى المدنيين، لكن المحادثات حول تنفيذ تفاصيله سرعان ما فشلت.
تشكّلت قوات «الدعم السريع» بقيادة محمد حمدان دقلو عام 2013، وتعود أصولها إلى ميليشيا الجنجويد التي قاتلت بضراوة المتمردين في دارفور على النظام السابق، كما سعى الجنرال دقلو إلى تأسيس قوات ضاربة تدخلت في صراعات في اليمن وليبيا، وهي تسيطر على بعض مناجم الذهب في السودان، واتُّهمت بارتكاب انتهاكات. واحدة من أهم النقاط الأساسية العالقة بين دقلو، وقائد القوات المسلحة والرئيس الفعلي للبلاد عبد الفتاح البرهان، هي الخلاف حول خطة ضمّ قوات «الدعم السريع» إلى الجيش، ومَن سيقود القوة الجديدة بعد ذلك، أي منهما سيكون الرقم واحد في السلطة الحاكمة. مهما كانت الأسباب التي حركت القتال في السودان، تبقى ظاهرة القوى المسلحة الرديفة أو الموازية للقوى العسكرية الشرعية الرئيسة مصدراً لعدم الاستقرار في البلاد وفشل الانتقال إلى الحكم المدني الديمقراطي كما في المنطقة بأسرها.
في الواقع، مفهوم الجيوش الثنائية له تاريخ مديد في الشرق الأوسط، يبدأ مع قوات الانكشاريين وعساكر المحمدية والباشبوزق زمن السلطنة العثمانية، لتشكّل الهياكل العسكرية الرديفة في نسختها الحديثة قوة مضادة للجيوش النظامية النزّاعة في هذه البقعة من العالم للانقلابات العسكرية. نذكر في هذا السياق «سرايا الدفاع» في سوريا، تحت قيادة رفعت الأسد، وكانت مهمتها الدفاع عن حكومة نظام شقيقه حافظ الأسد والعاصمة دمشق من هجوم خارجي أو داخلي. دُمجت عام 1984 في الجيش السوري تحت اسم «الفرقة الرابعة». ونذكر أيضاً «الحرس الجمهوري» الخاص زمن صدام حسين الذين أنيط به واجب حمايته ومقاره الرئاسية والعاصمة بغداد، مع وجود قوة حماية أكثر قرباً منه، هي «الحماية الخاصة»، والأشد بأساً من الجيش. ولعل المثال الأكبر على الجيوش الثنائية هو «الحرس الثوري» الإيراني الذي شكّله الخميني في أعقاب الثورة، ووظيفته الأولى كانت حماية النظام من الأعداء في الداخل والخارج.
في العقود الأخيرة، اكتسبت فكرة الثنائية العسكرية جاذبية جديدة، ولم يعد اللجوء إليها يقتصر على أنظمة المنطقة لحماية نفسها، بل وصل استخدامها إلى القوى الإقليمية والدولية بشكل غيّر مفهوم الحرب التقليدية، وأدخل مفاهيم جديدة، منها «الحرب بالوكالة» و«الأمن الهجين» و«الجماعات الخارجة عن الدولة»… نذكر التجربة الأميركية في أفغانستان، حين لجأت واشنطن إلى دعم مقاتلين إسلاميين ضد حكومة حفيظ الله أمين الشيوعية آنذاك. وتبقى إيران السباقة في استخدام الأذرع الخارجية لشن حروبها بالوكالة تحقيقاً لمصالحها، من «حزب الله» الذي يشد على خناق الدولة في لبنان بسلاحه المذهبي وأدواره الإقليمية إلى حد تقويضها، إلى «الحشد الشعبي» في العراق والحوثيين في اليمن. وفي سوريا، ظهرت ميليشيات تابعة لقوى إقليمية ودولية، قاتلت إلى جانب النظام أو ضده. أما حركة «حماس» الفلسطينية، ففرضت نفسها على السلطة الفلسطينية ورفضت اتفاق أوسلو بين «منظمة التحرير» وإسرائيل، بعد أن توسلته لتحكم، متسببة في انقسام قاتل في الجسم الفلسطيني، وظهور سلطة برأسين متنازعين. حتى إسرائيل، تتجه حكومتها المتطرفة اليوم إلى إنشاء حرس وطني يتحكم به المتشددون بموازاة الجيش. وإذا كان مناخ المنطقة الساخن يبدو ملائماً لنمو الميليشيات والتنظيمات المسلحة التي تدار عن بعد، لم تنجُ أوروبا من هذه الآفة مع خيار روسيا استخدام التشكيلات العسكرية الرديفة في حربها ضد أوكرانيا، في انعكاس لتجربتها في سوريا وأفريقيا، كما دعوة الرئيس الأوكراني نفسه إلى إنشاء «فيلق دولي» لدعم الجيش الأوكراني وإصداره تشريعات منظمة لما سمته حكومته «المقاومة الوطنية».
لا شك أنَّ ظاهرة الثنائية العسكرية باتت اليوم الأبرز ضمن المتغيرات التي يشهدها العالم وليس فقط منطقتنا، ولا شك أيضاً أن لها تداعياتها على مفهوم الدولة الوطنية ومفهوم الجيش الوطني، ودلالاتها على العلاقات الدولية.
بداية، يعكس انتشار الهياكل العسكرية الموازية للجيوش النظامية في المنطقة أزمة بنيوية عميقة في الدولة الوطنية جراء ضعف أجهزة الدولة ومؤسساتها في أكثر بلدانها، وعجزها عن فرض سلطتها، كما مشروعية حصرية امتلاكها للسلاح، ثم تعثرها في بناء دولة المؤسسات القائمة على أساس المواطنة الكاملة، وضمان الحقوق والحريات، ومواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية وتكريس شرعيتها، فضلاً عن غياب قواعد مرسخة لانتقال وممارسة السلطة، والفشل في استيعاب التعددية المجتمعية، وبلورة هوية وطنية جامعة تستقطب الولاء للوطن. تظهّرت أزمة بناء الدولة الوطنية الحديثة أكثر فأكثر بعد ثورات «الربيع العربي»، وما استتبعها من صراعات الهوية وعجز التركيبة غير المتجانسة للقوى الثورية عن طرح بدائل للأنظمة البائدة كما في اليمن وليبيا. بالنسبة إلى الجيوش، فخلال العقود التي تلت تأسيس الدولة العربية ظهرت مؤشرات مبكرة على نزعة التسيّس داخل صفوف العسكر لتشكّل الانقلابات العسكرية الملمح الأساسي للحياة السياسية العربية لأربعة عقود تقريباً. اليوم، ومع غياب الغطاء الآيديولوجي والسياسي الذي توفّر لأسلافهم الأوائل سنوات المد الثوري والقومي، تبيّن أن العسكر يفتقرون إلى العقيدة، وهم مرآة لمجتمع ولاؤه للانتماءات الفرعية لا الوطنية.
على صعيد العلاقات الدولية، هناك اتجاه عميق مستجد في النظام الدولي لتعزيز أدوار الجماعات المسلحة بديلاً عن السلطات القائمة. نذكر أنه في عام 2014، دعا الرئيس باراك أوباما علناً إلى دعم تشكيل حرس وطني عراقي باعتباره وسيلة تسمح للسنّة العراقيين بتحقيق «تحرّرهم الخاص» من الدولة الإسلامية، وهي فكرة أعادت بشكل أساسي صوغ الدعم الأميركي لمجالس «الصحوة» السنّية ضد القاعدة في 2006 – 2007. وفي ليبيا، اقترحت الأمم المتحدة عام 2012 تشكيل هيكل شبيه بـ«الحرس الوطني» سُمّي «جيش ليبيا المدني»، من أجل إرساء الاستقرار والقيام بمهام الشرطة، بينما يخضع الجيش النظامي إلى تدريبات. أما التسوية الأميركية مع «طالبان»، فهي إشارة إلى أن الدولة الأفغانية التي ساهم الأميركيون بقوة في تثبيت ركائزها لم تعد صالحة بصفتها شريكاً في العملية الانتقالية. ونجد فرنسا اليوم تحاور «حزب الله» في لبنان باعتباره الجهة الأقوى. ما حدث ويحدث يبدو أنه فصل جديد من العمل السياسي، كما في النظام الدولي، وقد جاء نتيجة لتراكم أدوار وأنشطة هذه الجماعات المسلحة منذ الثورة في إيران عام 1979، كذلك دعم أميركا للمنظمات المسلحة (الجهادية) التي قاومت الغزو السوفياتي لأفغانستان في السنة ذاتها.
بالعودة إلى السودان، يكشف القتال الجيش بجناحيه محاولته الالتفاف على الحراك المدني المطالب بالانتقال الديمقراطي. إذا استمرت مناورات العسكر هذه، تبقى سيناريوهات الارتداد إلى الحكم الاستبدادي أو الانزلاق نحو الفوضى والحرب الأهلية واردة ومرتفعة الاحتمال.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها