غرازييلا خوري

الجمعة ١٦ أيلول ٢٠٢٢ - 10:03

المصدر: صوت لبنان

الصحة النفسية في لبنان: الدولة استقالت من التزاماتها والنساء اول المتضررات

ليس مستغرباً ان تتدهور صحة اللبنانيين النفسية . ثلاث ازمات كبرى ضربت حياتهم في وقت واحد: أزمة اقتصادية ومالية، وجائحة كورونا ، وانفجار مرفأ بيروت، قلبت حياتهم رأساً على عقب، وتركت في ذاكرتهم آثاراً من الصعب محوها او تخطيها.

قبل الأزمة الحالية كان ربع البالغين في لبنان يعانون من اضطرابات نفسية وفق دراسة تعود للعام 2006.  اليوم هذا العدد ارتفع حكماً ولكن غياب الاحصاءات المحلية او حتى التي تقودها منظمات دولية يجعل الوصول الى رقم دقيق امراً صعباً للغاية، بعض الدراسات تشير الى 25% ارتفاع اضافي . 

لاشك ان الاضرابات النفسية الناجمة عن تراكم الصدمات ليست محصورة بفئة او جنس لكن اثرها على النساء جاء مضاعفاً نتيجة الأثمان التي دفعنها  في خسارة عملهن والمكتسبات التي حققنها على مدى سنوات من الكد. هذه حقيقة تؤكدها كل الدراسات التي اجريت وقادتها منظمات محلية ودولية على السواء.

الضغط  لم يعد يحتمل

الأزمات المتراكمة رمت على كتفي المرأة اللبنانية مهمات مضاعفة باتت مجبرة على تأديتها لسد فجوات كبيرة نتجت عن الانهيار الاقتصادي والمعيشي ، فصارت تعتني بمنزلها والأولاد وربما نزلاء آخرين كأهلها او اهل الزوج  الى والاهتمام بالأعمال المنزلية بعدما اصبحت المساعدة المنزلية بعيدة عن متناول الكثيرات، فوجدت ربة المنزل نفسها تمارس مجموعة من الأدوار  تفوق طاقة اي انسان على التحمّل بالاضافة الى عملها خارج البيت .

وفقًا لمنظمة العمل الدولية ، 81٪ من النساء اللبنانيات زادت واجباتهن المنزلية أثناء الوباء ، مقارنة بـ 64٪ من الرجال.

لا يتوقف الأمر على التعب الجسدي بل يتخطاه الى التعب النفسي عندما تجد المرأة نفسها عاجزة عن تلبية مطالب الكبار والصغار فتهمل نفسها وهندامها ومرات كثير صحتها وتتخلى عن عدد من الأدوية التي كانت تتناولها لتؤمن الدواء لمن يحتاجه اكثر بعدما بلغت اسعارها مستويات غير معقولة فأصبحت اول المغبونين.

هذا الوضع دفع بالعديد من النساء، المتزوجات والعازبات، الى ترك عملهن لا سيما منهن من اصبح راتبها بعد تدهور العملة الوطنية لا يكفي تنقلاتها، فوجدت نفسها بين شهر وآخر عاطلة عن العمل  تؤدي دوراً لم يكن الوحيد على جدول حياتها بعدما تحولت من امرأة متالقة ومنتجة او  الى امرأة  لم تعد ترى في الأفق اي فسحة  لتحقيق الآحلام التي راودتها عن مستقبلها  والآمال التي علقتها على حياتها.

الخسائر النفسية جاءت مدمرة

في ظل غياب الأرقام والدراسات في السنتين الأخيرتين على الأقل،  كان لا بد من اللجوء الى المنظمات التى تعنى بالصحة النفسية في لبنان لتقصي بعض الحقائق وقراءة بعض الأرقام .

من بين المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال الرعاية الصحية النفسية؛ الهيئة الطبية الدولية، وأبعاد ABAAD، منظمة “أمبريس” وإدراك، ومنظمة أطباء بلا حدود وجميعها تعمل بالشراكة مع وزارة الصحة العامة.

ميا عطوي هي اخصائية نفسية واحدى مؤسسي جمعية Embrace  التي تقدم الرعاية النفسية للبنانيين عبر عيادة مجانية وخط ساخن – خط الحياة على الرقم 1564  وضع للدعم النفسي والوقاية من الانتحار بالتعاون مع البرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة قبل خمس سنوات اي قبل ان تكر سبحة الأزمات ويبدأ الانهيار الشامل

تلاحظ عطوي ان نسبة الاتصالات على الخط الساخن ارتفعت مع تفاقم الأزمة من 500 اتصال شهرياً الى ما بين 1300 الى 1600  اتصال في الأشهر الأخيرة من عام 2022 اي بزيادة ثلاثة اضعاف، الا انه من اول عام 2022 وحتى 31-7-2022 بلغت نسبة الاتصالات من فئة النساء 53% اما في العيادة المجانية للصحة النفسية التي تشغلها المنظمة  فإن 61% من الأشخاص الذين لجأوا اليها كن من النساء.

تعنيف ومخدرات وكحول

تلجأ المرأة في الأزمات وخارجها الى المشورة النفسية اكثر من الرجال لأنها عموماً تملك القدرة على الانفتاح على المشاعر والضغوطات اكثر من الرجل ومشاركتها مع الآخرين وتجد في هذه الفسحة ملاذاً للتعبير عن المشاعر التي تقلقها  والضغوطات التي تتعرض لها  

التعنيف من ابرز المواضيع التي تشتكي منها النساء على الخط الساخن، فالرجل يعود الى المنزل بعد يوم شاق او غير مثمر ليفرغ غيظه في زوجته دون ان يوفر الأولاد، وقد ازدادت هذه الظاهرة  خلال فترة الاغلاق التي شهدتها البلاد خلال جائحة كورونا ولكن لا يمكن الهروب من حقيقة ان المرأة نفسها تمارس التعنيف والعنف في بعض الأحيان خاصة عندما تفشل في التنسيق بين العمل ومتطلبات المنزل  فيدفع الأولاد الثمن في الكثير من الأحيان.

تسجل عطوي ان النساء يشعرن بمعظمهن بعوارض اكتئاب وقلق وهما من العوارض الأكثر شيوعاً في لبنان هذه الأيام لدى كل الطبقات دون استثناء  وتتراوح الأعمار بين 18 و34 عاماً اي تتركز في فئة الشباب من الجنسين

ظاهرة اخرى بدأت بالانتشار بين النساء وهي تعاطي الكحول والمخدرات كوسيلة للهروب من الواقع الصعب. قبل الأزمات كانت المرأة اللبنانية تلجأ الى وسائل اخرى للهروب من الضغوطات اليومية  منها ممارسة الرياضة ، وارتياد دورالتجميل ، والسهر وحتى السفر لم تستطيع ان تؤمن مصاريفه، هذه الوسائل لم تعد بمتناولهن،  فلجأن الى استعمال الكحول  والمخدرات كالحشيش او الماريجوانا للتأقلم مع الأمر الواقع وتلحظ الخبيرة النفسية ميا عطوي اقبال النساء اليوم على العلاج النفسي طلباً للتخلص من الإدمان.

الانتحار ليس خياراً

في واقع قد يبدو مفاجئاً لا تسجل حالات الانتحار ارتفاعاً في الأرقام مقارنة مع باقي السنوات فمنذ بداية عام 2022 وحتى نهاية ايلول سجلت  92 حالة 65 مع الاشارة الى ان محاولات الانتحار لدى النساء تفوق بالضعفين محاولات الرجال الا انها بمعظمها تبوء بالفشل بخلاف الرجال الذين يلجأون الى وسائل اكثر عنفاً تؤدي الى الموت الحتمي كاستعمال السلاح او الشنق فيما المرأة تلجأ الى الأدوية المخدرة في الكثير من الأحيان.

جدول حالات الانتحار من عام 2018 وحتى ايلول 2022 بحسب “الدولية للمعلومات

كبيرات  السن متروكات لقدرهن

حالات اهمال كبار السن باتت ترتفع بشكل مضطرد  وقد سجل الخط الساخن في منظمة Embrace مجموعة من الحالات عن نساء مهملات.

في احد الاتصالات ابلغ الجيران عن امرأة تظهر عوارض ذهانية، فباتت تتحدث مع نفسها وتتخايل اموراً غير موجودة وتركض لترمي مقتنياتها من على  شرفة منزلها في الأشرفية. شقيقتها الكبرى ترفض الاعتناء بها لعدم توافر القدرة على ذلك كما ترفض التعاون لادخالها المستشفى على الرغم من عرض قدمته الجمعية بتولي التكاليف، وهذا الرفض قطع كل امكانية لعلاجها لأن الصليب الأحمر والقوى الأمنية ترفض التحرك دون وجود احد افراد العائلة المباشرين.

من الواضح ان هذه المرأة كما سواها من النساء لم يعد لديهن معيل يؤمن الأدوية اللازمة للعلاج النفسي بعدما وصلت اسعارها الى مستويات خيالية لم تعد بمتناول الناس.

سقط نظام الرعاية بهؤلاء الأشخاص بسقوط كامل منظومة الرعاية الصحية في لبنان. فدورالرعاية التي كانت مخصصة لهذه الفئة باتت اليوم عاجزة عن استيعابهم وبات الكثير من كبار السن عرضة للوفاة في اي لحظة تُكتشف جثثهم بعد ايام على وفاتهم.

الدولة مستقيلة من واجباتها

أطلقت وزارة الصحة العامة في 2014 البرنامج الوطني للصحة العقلية، بجانب استراتيجية الصحة النفسية واستخدام المواد المسببة للإدمان التي تمتد لخمس سنوات، وذلك لتعزيز الالتزام بخطة العمل الدولية التي أقرتها منظمة الصحة العالمية بخصوص الصحة النفسية 2013-2020. 

يؤكد الدكتور جورج كرم، رئيس “معهد التنمية والبحث والمناصرة والرعاية التطبيقية” (إدراك) -وهي منظمة غير حكومية- أن وزارة الصحة العامة لم تبذل ما يجب من جهدٍ من أجل توفير الموارد اللازمة للجهات الفاعلة من المجتمع المدني وأن الوزارة لم تفِ بما عليها من التزامات تجاه معالجة القضايا التي أثارتها المنظمات غير الحكومية المختلفة ( بحسب موقع مبادرة الاصلاح العربي) .

كما ان الأموال التي صرفت للدعاية والاعلام والتوعية لم تصل الى كل الذين يعانون من مشاكل نفسية.

الدولة اللبنانية اليوم وامام الانهيار الشامل والازمات المتلاحقة تولي اهتمامها لمشاكل اكثر الحاحاً،بنظرها،  وتهمل البرنامج الذي وضعته بنفسها لحماية الصحة العقلية للبنانيين كما اهملت كل النواحي الأخرى فبقي اللبنانيون عموماً والمرأة  بشكل خاص فريسة تقصير فاضح تدفع ثمنه من حياتها وصحتها العقلية.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها