منى فياض

الأحد ٢٧ آذار ٢٠٢٢ - 09:32

المصدر: الحرة

الصين قبل أن تستيقظ 

إنها الذهنيات 

كتب مكارتني:” لا شيء أكثر خداعا من الحكم على الصين بحسب معاييرنا الغربية”. اما فرنان بروديل فلقد اعتبر ان بعثة اللورد مكارتني تمثل بالنسبة للتاريخ المقارن ولتاريخ الذهنيات لحظة مميزة. 

أرّخ آلان بيرفيت في كتابه المنشور في العام 1989 L’empire Immobile للبعثة الانجليزية التي أرادت افتتاح التبادل التجاري والدبلوماسي مع الصين. يروي ان نابليون احتد ضد فكرة فتح الصين امام التجارة الانجليزية، فتوجه الى مكارتني:” الدخول في حرب مع امبراطورية شاسعة تملك موارد عظيمة، ستكون حماقة كبرى. بالطبع ستنجحون في البداية، سوف تتغلبون على سفنهم وتقضون على تجارتهم. لكنكم ستسمحون لهم بالتعرف على قوتهم. وأردف مقولته الشهيرة: “عندما تستيقظ الصين سيرتجف العالم”.  

تساءل حينها بيرفيت، لكن لماذا لم تتحقق نبوءة نابليون حتى الآن!!  

طبعاً كان عليه الانتظار لعقد او عقدين. فالتنين الاصفر كان قد بدأ تثاؤبه قبل ان يستيقظ ويغزو اسواق العالم ويحتلها ببضائعه الرخيصة كما التكنولوجية، وليتحول الى ثاني اكبر قوة اقتصادية ويشرع ببناء قوته العسكرية. 

لزم الصين زمناً كثيراً كي تستفيق. فمن زمن البعثة أواخر العام 1792 ، وحتى العام 1971، عندما سُمح لأول بعثة رسمية غربية بدخول الصين بعد 5 سنوات من اعلان الثورة الثقافية، صُدم بيرفيت من التشابه الغريب بين سلطة الدولة الشيوعية مع تلك التي احتك بها مكارتني. ظلت الطقوس متشابهة، وظلت السلطة على حالها بعد 170 عاماً!  

الحزب تلبس دور الامبراطور وحلّ فكر ماو وكتابه الاحمر محل فكر كونفوشيوس ومدونة القوانين الصينية Ta T’sing Leu Lee. 

إن ما لا يتقدم، يتأخر 

قراءة كتاب بيرفيت الآن تفيد بفهم بعض جوانب من الذهنية الصينية ونظرة الصين الى نفسها والى العالم. فعلى سبيل المثال، عندما عرض احد الرهبان مجسم الكرة الارضية لأول مرة على بعض الصينيين لم يعلقوا سوى: الصين صغيرة جداً!! فبالنسبة لهم تشغل الصين مركز الكون. ولا يوجد شيء خارجها سوى العدم.  

كان الغريب الذي يدخل الصين يُمنع من الخروج كي لا ينسج مؤامرة ضد الامبراطورية فتهدمها. وصعوبة تهريب بيوض دودة القز ونبتات الشاي معروفة. لذا على الغرباء الخضوع لتقاليد البلاد وتعلم اللغة والعادات والبقاء في الصين الى الابد. أوامر الامبراطور: “ان على من يريد المجيء والبقاء والدخول في خدمتنا يجب ان يبقى دون امكانية العودة الى بلاده، ولن يستطيع الحصول على الاذن للتحرك بحرية ولا يقوم بتبادل الرسائل”. إذن يصبح وجوده من دون فائدة. حتى الصيني الذي يترك الصين يخشى العودة اليها لانه يعد خائناً. هذه هي القواعد غير المرنة للامبراطورية السماوية التي يحكمها ابن السماء. الغرب يهدد الهوية التي يحفظها التمسك بالتراث. فطقس السجود للامبراطور، التي رفضه مكارتني، شكل أحد عوائق التواصل الجوهرية. وهو طقس لا يمكن التخلي عنه مطلقاً مع انهم يقدمونه كأمر تافه يمكنك تنفيذه!! التناقض هنا لا يعني لهم شيئاً.  

صين تبيع ولا تشتري لأنها لا تحتاج شيئا، هي عكس انجلترا. التنين ينفتح احيانا ولكنه يعود لينغلق بسبب عدم اطمئنانه. نفس المجتمع يخضع تكرارً للهدم ولإعادة التشكل. اما انجلترا فتطور مستمر. الطقوس هي أولوية الصين. فإذا اهتز الطقس انهار بنيان الطاعة الذي يدعمه الولاء المطلق. لكنه عدو التحسن وبلوغ الأفضل بالطبع.  

ارتأى فولتير بجدية، ان ما يجعل الصينيين فوق سائر شعوب الارض، ان قوانينهم وعاداتهم ولغتهم التي يتكلمها متعلميهم لم تتغير منذ 4 آلاف سنة. وهذا ما يعاكس التطور والذوق الانجليزي، المتعلق بالحرية والتقدم، الراغب بنشرهما في العالم.  

 دعا أباطرة المينغ رعاياهم للعودة الى تعاليم كونفوشيوس في تقليد القدماء، ورفض التأثير الخبيث للأجنبي. اصدروا مرسوم الجمود في نفس اللحظة التي كان فيها الاوروبيون، يستعيدون نفسهم بعد جائحة الطاعون الاسود ويتهيأون لاستقبال اللحظة البطيئة التي انتشلتهم من ظلمة القرن العاشر لبلوغ حدود العالم المعروف. ففي لحظ انتشار المغامرة الانسانية على الكرة، كان الصينيون يقفلون على انفسهم متمسكين بشعورهم بالتفوق. 

كي لا نغيّر لا نتبادل 

اتى مكارتني ورفاقه حاملين اقتراح حركة تبادل فوجدوا مجتمعاً صينيا مقفلاً، بنظام مغلق، كامل، دقيق ومتطلب. يخاطر كل من لا ينحني امامه. نظام لا يمكن التهرب منه الا بالغش والاحتيال او الجمود- وانعدام الفعل؛ ونادرا ما يمكن ذلك بالمبادرة. التجديد ممنوع. تكفي العودة الى الاسلاف. في النصوص القانونية لكونفوشيوس الحل لكل صعوبة. ولا يجب تغيير اي شيء. 

استطاع المنشوريون وهم قلة من 300 الف، ان يحكموا 300 مليون انسان ببساطة لان البنية لا تتغير: بيروقراطية سماوية وسيطرة التراتبية الجامدة. 

كيف يمكن للصين ان تتطور دون أزمات؟ ومع خوف يحول دون أي مبادرة لا تكون متطابقة مع القاعدة السائدة؟ انه التصاق متطيّر بالعادات القديمة دون فحص مدى صلاحها . بعد نصف قرن كتب الاب هوك  Huc ” حتى الشخص الذي يملك عبقرية سيجد نفسه مشلولاً من فكرة ان جهوده ستلقى العقاب بدل المكافأة.” 

ان الاطلاع على هذا الكتاب الذي أعده بيرفيت اعتماداً على آلاف الصفحات من مذكرات تلك البعثة التي فشلت في مسعاها للحصول على اذن بالتجارة الحرة مع الصين، فمهّدت لحرب الافيون الشهيرة؛. يسمح لنا بالاطلاع على نمط التفكير الصيني الذي ظل قائماً لقرون دهرية. ولا شك أنه ترك آثاره حتى الآن؛ ربما ما برهنت عليه جائحة كورونا، فالتمسك بنمط الغذاء الألفي والتقليدي كان أحد أهم اسبابها. 

نهاية أسطورة  

وصلت البعثة الصين إبان الثوة الفرنسية. سبقتها عدة بعثات لحثّها على الانفتاح. رغبت انجلترا، التي بدأت تعتبر نفسها “الأمة الأقوى على الكرة”، وهم شعب مكون من 8 ملايين نسمة، ان تتعامل مع الصين التي كانت تعد 330 مليون نسمة – أي ثلث البشرية – من الند للند. الصين التي كانت تعد نفسها “الحضارة الوحيدة تحت السماء”، صدّت طلبهم بفظاظة. امبرطورية السماء لا تعرف الندية، فحتى هدايا الملك الانجليزي اعتبرت من فروض الجزية. 

الاستنتاج ان ما حصل كان تصادم لغة وثقافة. وأفادت شهادات من حياديين، بوجود سوء الظن وسوء النية عند الصينيين من الأساس تجاه الانجليز ورغبة باحباط مساعيهم. يكتب بيرفيت ان الصينيين حتى اليوم يصرّون على المجاملة واظهار اللطف، حتى عندما يختبئ خلفها الكراهية وعدم الاتفاق. 

لقد اكتشف مبعوثهم صيناً مختلفة تماما عن تلك التي جعلها عصر الانوار مثالية، بحيث سميت حقبة L’europe chinoisé ثقافياً؛ وعمل على هدم الاسطورة والخدعة التي روجتها الارساليات الكاثوليكية. الاعجاب المبالغ فيه بالصين اخفى جهلاً كبيراً بها. المعرفة بها نقلها الرهبان الذين لم يكتبوا ما يزعج الصينيين لإبقاء مؤسساتهم فلا تتهدد بالطرد. يعلّق بيرفيت ان كثر من sinologues كرروا نفس الفعل في صين ماو كي لا يقطعوا مصدر عيشهم.  

يذهب سير توماس ستوتن، الذي رافق البعثة طفلاً،  في مقدمته مباشرة الى الهدف:” ان اقامة مكارتني القصيرة وبعثته في الصين، جعلتهم يكتشفون ان التفوق على الاوطان الاخرى الذي ينسبها الصينيون الى انفسهم، ويقبل بها عدد من المؤرخين الاوروبيين، كانت مضللة وزائفة تماما.  وبدأ “نموذج لا يحتمل” بالظهور، موميائي محجوز بطقوسه وغروره. 

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها