منى فياض

الأحد ٢٤ نيسان ٢٠٢٢ - 10:04

المصدر: الحرة

الصين.. وإذ تململ التنين الأصفر

طالما سحرتني الصين، ليست صين ماو وكتابه الأحمر، بل تلك التقليدية التي تقدمها الأساطير والرسومات على الحرير والخزف وفي اللوحات، فتنقلك الى عالم سحري –  سماوي. انها الصين التي برعت بيرل باك  في وصفها. متى بدأت نظرتي تتغير؟ مع الوقت وبعد ان تكشف الوجه القمعي للصين، خصوصاً بعد مجزرة تيان ان مينه.  

كان الإمساك بالمجتمع بشكل حديدي من السياسات المعتادة عبر الزمن في الصين، البلد مترامي الاطراف، المزدحم والمحتاج دائماً لتأمين الغذاء لكثافته السكانية.  

آخر نماذج الرقابة الناعمة، منع مقالة الباحث السياسي Hu Wei الذي كتب على موقع صيني: “ان على الصين ان تقطع علاقاتها مع بوتين كي لا ينتهي بها المطاف الى جانب الخاسرين”. سجلت مقالته اكثر من مليون مراجعة بوقت قصير وتناقلتها مواقع عديدة، ومنها الرسمية. فسارعت السلطات الى حظره. في العادة يمنع المقال فقط، لكنها هذه المرة أقفلت الموقع نفسه. إذ يصعب على الصين التخلي عن موسكو، كما القطع مع الغرب. 

في كتاب “L’empire Immobile” نجد في كل صفحة أمثلة على الرقابة المشددة التي خضعت لها بعثة مكارتني: تخطيط  لخط سير السفن، متى تصل وبأي سرعة، ومن يستقبلها وبأي طريقة وأي طعام يقدم وبأي نوعية وكمية. إنه نهج صيني متبع، مورس مع الرئيس أوباما عندما ألزمه باب الطائرة الصينية الخفيض من الانحناء. 

مع مكارتني، في القرن الثامن عشر، جاءت اوروبا تدق على باب الصين كي تقدم لها آخر الصناعات المتطورة في الغرب. وبعضها كان تطويراً للاختراعات الصينية بعد ان نسيتها الصين وأوروبا تجهل انها آتية منها. فهذه البراعم تفتحت في الغرب بسبب الحشرية وحب المعرفة الصافي الذي يستتبع الاكتشاف. فتتعدد التطبيقات بسبب المنافسة وشغف الربح. بينما كانت الصين تستكين في كنف الماضي وتراثه.  

فعندما اندهش نائب الملك من عود الثقاب الذي قدمه له مكارتني ليشعل غليونه، ان يحمل في جيبه نارا دون ان يحترق! كان ذلك لنسيانهم انهم من اخترع الكبريت وعرفوه قبل الغرب بعدة قرون.  

حتى القرن السادس عشر كانت الصين متقدمة تقنيا وعلمياً على الغرب، عرفت وحدات القياس، الصفر والارقام السلبية واخترعوا البوصلة والمطبعة والورق وبودرة اسلحة الحرب قبل الغربيين.  

يتساءل بيرفيت ما إذا كانت الصين تمر بمرحلة التوحد autistic؟  فصارت كالطفل المتوحد الذي وصفه بتلهايم، يوفر طاقته الذهنية لهدف واحد: الحفاظ على حياته باهمال العالم الخارجي؟ 

لكن الآن تتحول الأسئلة حيال الصين، التي تحيّر او تسحر في العادة، الى قلق وعدم اطمئنان. لقد تحول صعود القدرات الصينية الى ظاهرة مترامية الاطراف تتمدد تأثيراتها في العديد من القطاعات، فنجد على كل قارة – مشاريع “لطريق الحرير الجديدة” بما فيها “طريق حرير رقمي”، مرورا بطموحاتها الفضائية وتحركاتها العسكرية.  

تطلّب الاعتقاد ان الصين ستكتفي بأن تظل مصنع العالم بتعقل وهدوء، وحلقة وصل لا يستغنى عنها لعولمة سعيدة، الكثير من السذاجة. فعندما نقل الغرب مصانعه، فكر بالربح على كل المستويات: تخفيض كلفة الانتاج مع يد عمل ماهرة، منتظمة ورخيصة. لكن الصين استدركت تأخرها التكنولوجي اعتمادا على الخبرة التي اكتسبتها بفضل الصناعات الاجنبية، لكي تتوصل للاستغناء عنهم تدريجياً. 

أيضاً توهم الخبراء الغربيون في الصين، انها ستسير على خطى الكرملينية، أي ان النمو الاقتصادي، حتى المبني على رأسمالية الدولة التي تعتمد الشيوعية، الذي يغني المواطنين، سوف يوصلها آجلاً او عاجلا الى انتصار الديموقراطية. لكن ذلك لم يحصل. كما افترض عمالقة السيليكون فالي ان الديموقراطية ستعم مع الوسائط الرقمية. 

حصل العكس، فالحزب الشيوعي الصيني، ولو انه لا يضبط جميع نواحي حياة الصينين بعد، اصبح كلّي الحضور بما يفوق خيال أورويل نفسه. أرست الصين خلال عدة سنوات نظام رقابة للسلوك من دون هوادة وغير مسبوق في تاريخ البشرية. جميع الافعال على الشبكة والتبادلات على الوسائط الاجتماعية والتنقلات والمشتريات، بكلمة جميع اوجه حياة الصينيين، هي موضع رقابة مركزية. 

 كما يُخضَع السكان في التيبت وفي شي جيانغ الى قمع متصاعد باضطراد. بكين، التي يتزايد نفوذها وتأثيرها في المؤسسات الدولية، خصوصا في الامم المتحدة، تعيق مفعول أي نقد متعلق بحقوق الانسان او فرض معايير ضبط. وترفض فكرة حماية الشعوب المعرضة للخطر. وبالتالي تنكر على اي كان الرغبة بمساعدة الإيغور المعتقلين. استفادت الصين من نفوذها الاقتصادي في افريقيا فشكلت حلفاء ذوو وزن في الامم المتحدة. فأصوات الأفارقة سمح باستبدال تايوان بالصين ومنع ادانة تيان ان مين.  

نسي العالم ان القيادات الصينية شيوعية. ذكّرهم الرئيس شي جنبينغ بذلك بقوة، غايته: “جماعة واحدة ذات مصير مشترك للبشرية”.  

ان أكثر ما يؤرق الرئيس الصيني القوي: التعرّض لنفس مصير غورباتشيف، الذي فتح باب الاصلاحات، وعجل بسقوط حائط برلين وانهيار الكتلة الاشتراكية في العام 1989. فتفكك الاتحاد السوفياتي في العام 1991. الحزب الشيوعي الصيني الذي احتفل بمائة عام على تأسيسه في تموز عام 2021 ، سيعمل كل ما بوسعه لمنع مثل هذه الكارثة. 

ان ادارة السلطات الصينية المبهمة وغير الشفافة لأزمة كوفيد 19 ضاعفت الحذر تجاه النظام. وبرهنت جائحة كوفيد وما تلاها، وبالرغم من عروض الصين المتعارضة والمزدوجة بالمساعدة، والتي وثق بها البعض والبعض الآخر لا، تظل الصين مع ذلك غير معزولة. وهي تستمر بتنويع شركائها مع انها تستفز عددا مهما من البلدان. 

استخدم عدد لوموند الخاص عن الصين عام 21، علم الخرائط لإظهار مدى اتساع الشبكة التي نسجتها الصين حول العالم. خطة “صنع في الصين 2025” ضربت الغرب. بكين اعطت نفسها  صراحة 10 سنوات كي تصبح زعيمة او قائدة العالم في 10 تقنيات – مفاتيح. ردة فعل الغرب جعل الصينيون يتوقفون عن الكلام عن Made In China 2025، لكن المشروع لم يختف. 

سمحت الجائحة للصين بتجديد قطاعين – مفتاحين: التعليم عن بعد والتطبيب عن بعد. ففي الصين لا يوجد  اطباء مدينة، وكي لا يخاطروا بالذهاب الى المستشفيات العمومية يستخدم الصينيون حاليا الهاتف المحمول للحصول على الخدمة. موقع الصين في الصدارة في مجموعتين من مجموعات العلوم التكنولوجية من الخمسة الاوائل في العالم. 

فالرئيس الصيني يركز منذ ولايته الثانية2017، على فرض جلسة دراسية مرة في السنة حول موضوع علمي للأعضاء 25 للمكتب السياسي للحزب لشيوعي. كل مرة مع خبير مكلف بتقديم التحديات في الموضوع المعروض، مثل: البيانات الكبرى (big data)، الذكاء الاصطناعي، block-chain او سلسلة الكتل… 

تتعمم الورطة او التحدي مع الصين: كل بلد يجد نفسه من الان وصاعدا بمواجهة مع تبعيته للسوق الصينية، فهو إما يصدر لها او يستورد منها. لقد تسارع الوعي بهذه التبعية للسوق الصينية مع كوفيد، خصوصا في قطاعات استراتيجية مثل (الصيدلانية والخدمات اللوجستية) .. لكن اعادة تنظيم سلاسل التموين ستأخذ وقتاً ولهذا تظل الحاجة للسوق الصيني  حاليا حيوية لعدد كبير من الاقتصادات. 

التهم الأميركيون في 2001 نصاً لغوردون شانغ The coming collapse of China. بعد 20 سنة يحذرهم David Goldman بنص: “You will be Assimilated” . فالصين بعد ان امضت آلاف السنين لضبط مشاكلها الداخلية، تقوم الآن:” بأكبر استدارة في تاريخها منذ توحيدها، في القرن الثالث قبل المسيح. انها تتطلع الان نحو الخارج، لكنها لا تريد ان تحكم العالم، انها تريد استيعابه”. بمعنى هضمه كما الطعام.  

لا شك ان هناك دائما امكانية لجعل هذه المعطيات نسبية؛ كالقول ان النخبة الصينية لا تزال تتكون في الولايات المتحدة، وان عددا من المنشورات العلمية الصينية لا تهم سوى كاتبيها، وانها تمارس فن البورباغندا في تقييم التقدم التكنولوجي غير المستحق بالضرورة، خصوصاً ان الابتكار والتجديد لا يناسبان الحزب الشيوعي المهيمن.  

كل هذا صحيح، لكن تجدر الاشارة الى ان العلم والتكنولوجيا يحظيان حاليا في الصين بدعم سياسي ووسائل تمويل لا شك ان لا معادل لهما في العالم؛ وتجاربها المتفلتة في الهندسة الجينية مصدر قلق جدي . 

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها