فرح منصور

الخميس ٣١ آب ٢٠٢٣ - 19:07

المصدر: المدن

القضاة “يهربون” من رياض سلامة: أسباب الخوف والمهزلة

قد يكون مؤسفًا القول بأن ما حصل يوم أمس داخل قصر عدل بيروت كان بمثابة طعنة إضافية في جسم القضاء اللبناني.. فالذي بات متفقًا عليه في الآونة الأخيرة، أن حاكم مصرف لبنان السابق، المطلوب دوليًا والمُلاحق داخليًا بجرائم مالية وتزوير، تمكّن في اليوم نفسه من إلحاق المهانة بالجسم القضائي، ليمرّر بذلك رسالة قصيرة واضحة، مضمونها بأن وقوعه في مصيدة القضاء أو محاولة إصدار مذكرة توقيف بحقه، سيؤدي لإدانة مجموعة أسماء بارزة من السياسيين وبعض القضاة الذين تورطوا معه.

التنحي عن ملف سلامة
المسرحية الهزلية التي حصلت يوم أمس، الأربعاء 30 آب، بدأت تُكشف خفاياها بالعلن. إذ كان من المفترض أن يحضر سلامة إلى قصر عدل بيروت للمثول أمام الهيئة الاتهامية، وكانت المعطيات القضائية تؤكد بأن “القنابل القضائية” ستنفجر في الطابق الثالث، بعدما أكدت غالبية المصادر القضائية عن توجه القضاء اللبناني إلى إصدار مذكرة توقيف بحق سلامة. بيد أن الأمور انقلبت بشكل سريع، حين حضر وكيل سلامة القانوني حاملًا دعوى مخاصمة الهيئة الاتهامية.

إذن، تلك هي المعطيات التي حدثت داخل قصر عدل بيروت يوم أمس، والتي أدت إلى إبعاد الهيئة الاتهامية عن الملف. الجديد في هذا، أن القاضي ماهر شعيتو، تقدّم صباح اليوم الخميس 31 آب، بطلب إلى الرئيس الأول لمحكمة الاسئتناف، القاضي حبيب رزق الله، يعلن فيه عن تنحي الهيئة الاتهامية التي يرأسها والتي تضم المستشارين جوزف بو سليمان وكريستل ملكي، عن النظر في ملف سلامة القضائي بسبب حالة “الحرج” من هذا الملف.

معنى هذا الكلام، أن شعيتو يريد الخروج نهائيًا من هذا الملف، لأن سلامة يشكل له حالة من الإحراج، وفقًا لكلامه. من الناحية القانونية، حين يطلب قاض معيّن التنحي عن أي ملف، ويقدم هذه الحجة، يعني هذا أنه يتعرض لضغوطٍ ما من الخارج، ويُفرض عليا إتخاذ قرار معين لا يريده، أو أن هذا الملف يسبب له المشاكل مع أحد الأطراف، لذلك يريد الخروج منه بشكل كليّ.

في الحالتين، قد نستنتج بأن شعيتو تنحى عن الملف بسبب الضغوط السياسية التي يتعرض لها من المرجعية السياسية المقرب منها أو التي ينتمي إليها. وبالتالي، يمكن اعتبار هذا السبب هو من أهم الأسباب التي دفعته إلى الابتعاد عن ملف سلامة.

أخطاء جسيمة
بالعودة قليلًا إلى تفاصيل “الخطأ” الذي حصل يوم أمس، خلال تدوين الدعاوى التي قدمها سلامة، فإن المعطيات الأولية التي قُدّمت لنا، أكدت بأن بعض الالتباس حصل داخل قلم محكمة التمييز المدنية أثناء تدوين الشكاوى، فأبرز وكيل سلامة القانوني نسخة عن دعوى واحدة فقط للقاضي شعيتو، وفقًا للمصادر القضائية، ولم يسجّل باقي الشكاوى في قلم التمييز، فعاد إلى القلم، بعد بدء الجلسة، وسجّل باقي الدعاوى وانتهى الأمر بمخاصمة جميع القضاة في الهيئة الاتهامية من دون استثناء.

اللافت أن هذه المعطيات اختلفت اليوم، وشُرحت تفاصيل المشكلة الأساسية، حيث علمت “المدن” بأن قلم محكمة التمييز لم يخطئ أبدًا في تدوين الدعاوى، ولا علاقة له بكل ما حدث، فوكيل سلامة تقدّم بدعوى واحدة فقط خاصم فيها الهيئة الاتهامية، معتقدًا بأن هذه الدعوى الوحيدة ستكون كفيلة برفع يد جميع القضاة عن هذا الملف، وربما كان متناسيًا بأن القضاة يتناوبون خلال هذه الفترة، وبالتالي تتغير الهيئة الاتهامية بشكل دائم.

أي بمعنى أوضح، وكيل سلامة تقدّم بدعوى واحدة فقط، وهي مخاصمة الهيئة الاتهامية، وبعد إبرازها أمام القاضي ماهر شعيتو، لم يكن مذكورًا اسم شعيتو في الدعوى، وبالتالي حتى ذاك الوقت لم تُرفع يد الأخير عن الملف، لأن المخاصمة لم تطله بالاسم، بيد أن وكيل سلامة شرح “نيته” وأبرز بعض الأورواق التي حاول أن يثبت فيها بأنه تقدم بمخاصمة جميع القضاة، فأعطي بعض الوقت لمراجعة قلم محكمة التمييز، فصحّح الخطأ، وتقدم بدعاوى جديدة، طالت حينها الهيئة الاتهامية برئاسة القاضي ماهر شعيتو، وجميع القضاة في الهيئة الاتهامية. وذكر في مضمون هذه الدعاوى بأنه سيخاصم جميع القضاة داخل الهيئة الاتهامية في حال قرروا وضع يدهم على ملفه القضائي.

هذا الأمر، كان كفيلًا بتبرير غضب اسكندر يوم أمس، ومحاولتها “استغلال” (إن صح القول) هذا الخطأ الجسيم الذي وقع به الوكيل القانوني، وسعيها المستمر لأن تصدر الهيئة الاتهامية مذكرة توقيف بحق سلامة، على اعتبار أن شعيتو لم ترفع يده عن الملف، فالهيئة الاتهامية ليست مسؤولة عن أخطاء المحامين في تدوين الدعاوى. بيد أن مصادر “المدن” شرحت بأن شعيتو كان رافضًا لهذا الأمر، لأن وكيل سلامة كان قد شرح “نيته” في هذه الدعاوى وأبرز بعض الأوراق اللازمة، وبالتالي كان من الصعب عليهم أن يتجاهلوا هذا الأمر، وأن يتعاملوا مع الملف كأن شيئًا لم يكن، خصوصًا بعد إبلاغهم بأن سلامة خاصمهم، وبالتالي ترفع يدهم تلقائيًا عن الملف.

اللافت أن هذا الخطأ الجسيم صادر عن وكيل سلامة الذي من المفترض أن يكون مخضرمًا في الأمور القانونية، وأن يكون على علم بكل هذه الأمور.

حجج غير مقنعة
في الواقع، ما تقدم به بعض القضاة من “حجج” لم يكن مقنعًا إلى حد ما، وهي ليست المرة الأولى التي يتجنب بها القضاة الغوص في ملف سلامة، ويحاولون الابتعاد عن الملف، فدائرة التنفيذ تمنعت سابقًا عن تنفيذ الحجز على أملاك سلامة، حين رجحت المصادر القضائية بأن سبب تهربهم من تنفيذ الحكم على عقارات سلامة، كان لسبب واحد وهو أن الحاكم “مسيحي”. ويعني هذا أن القاضي المخول بتنفيذ الحجز يجب أن يكون من الديانة المسيحية. في السياق نفسه، كان مكشوفًا تعاطي قاضي التحقيق الأول، شربل أبو سمرا في ملف سلامة، وهو المرفوعة يده عن الملف حاليًا، حين سيطرت المماطلة والمراوغة على أدائه، واتهم إثرها أبو سمرا بإظهار المحاباة لرياض سلامة، حين عمد إلى تأمين سبل راحته خلال ساعات الاستجواب، وسمح له بتدخين السيجار وبشرب القهوة وبالتنقل بحماية كاملة من دون التعرض له، ومنع الجميع من رؤيته أو الاقتراب منه أو التقاط أي صورة له.

من المؤسف اليوم القول بأن السلطة السياسية الخائفة من سلامة، تحاول حماية سلامة تجنبًا لفضحها، والسؤال الذي يطرح اليوم: هل سبق للقضاء وأن تعامل مع “نوايا” المحامين أو المدعى عليهم بهذا الشكل؟ وإن كان تمنّع شعيتو عن إصدار مذكرة توقيف يعود فعلًا لهذه الأسباب، فهذا دليل كافٍ على قدرة التدخلات السياسية في تمييع ملف سلامة عن مساره الحقيقي.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها