سام منسّى

الأثنين ٢٨ أيلول ٢٠٢٠ - 08:19

المصدر: الشرق الأوسط

اللبننة والاختزال والاغتيال

بات بدهياً القول إن المبادرة الفرنسية تلبننت، وعوض أن تُنقل التقاليد الديمقراطية الأوروبية العريقة إلى عروق السياسة اللبنانية العفنة، أضحت تغطي هرطقات دستورية هي آخر ما يحتاج إليه لبنان في هذه الظروف العصيبة.
والمقصود هي الخزعبلات التي أحاطت بتشكيل الحكومة بدءاً من التكليف والتشكيل، مروراً بتناتُش الصلاحيات بعيداً عن الدستور بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف ورؤساء الحكومات السابقين، وصولاً إلى بدعة الرئيس سعد الحريري الداعية إلى تسهيل التشكيل بمنح الشيعة هذه المرة حقيبة وزارة المالية مع تمسك «حزب الله» وحركة «أمل» بهذه الحقيبة تحت طائلة تعطيل التأليف. والتعطيل هو سمة دَرَج عليها الثنائي الشيعي متحالفاً مع التيار الوطني الحر منذ عام 2006 لتحقيق أهدافه بوسائل عدة، كالتخييم في أسواق بيروت وإغلاقها وإقفال مجلس النواب وتعطيل انتخابات الرئاسة لأكثر من سنتين، فضلاً عن تأخير تشكيل الحكومات مرة تسعة أشهر وثانية 11 شهراً.
بدأت مبادرة الرئيس الفرنسي إثر زيارته الأولى لبيروت غداة تفجير المرفأ في الرابع من أغسطس (آب) الماضي بهجاء الطبقة السياسية الفاسدة وتعنيفها صباحاً، لتنتقل بعد الظهر وفي المساء إلى محاورتها ووضع الأطر لمعاودتها الإمساك بالسلطة بعد التشظي الذي أصابها إثر الويلات التي حلّت بالبلاد منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
يصح القول في هذه الزيارة إنها بقرت بطن اتفاق الطائف عندما طرح الرئيس الفرنسي ضرورة وضع نظام سياسي وعقد اجتماعي جديدين للبنان وسط هذه الظروف، مستبعداً مقاربة قضايا السيادة والسلاح خارج الدولة وهيمنة «حزب الله» ومَن وراءه إيران على القرار السياسي والاقتصادي والأمني في البلاد. وبدأت ملامح استعصاء مستجدّ حمل عناوين كثيرة كالحقوق المستباحة للطائفة الشيعية والتمسك بالأعراف التي اعتبرت بقوة الدستور والقوانين، إلى تهم الاستقواء بالغرب والعقوبات الأميركية ضد الحزب وراعيته إيران وآخر المعزوفة التي تتقنها جماعة الممانعة، وكلها شكّلت انقلاباً ضمنياً على المبادرة الفرنسية مع التمسك العلني بها.
إنما ما جرى حتى اليوم يفيد بأمر واحد بات شبه محسوم وهو أن «حزب الله» انتقل من تثبيت دعائم انقلابه واستيلائه على السلطة بفروعها التنفيذية والتشريعية والأمنية كافة إلى تشريع هذا الانقلاب عبر تكريس نتائجه دستورياً وقانونياً، ويظهر ذلك عبر مطالبته الصريحة والواضحة بمؤتمر وطني أو تأسيسي يضع أسس لبنان جديد.
هذا المطلب صدر وفي أكثر من مناسبة عن الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله كما عن المراجع الشيعية الدينية الرسمية مثل المفتي الجعفري الممتاز، ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.

فلماذا هذا المطلب الآن؟ وهل التوقيت هو الأكثر ملاءمة للحزب والحلفاء لمثل هذا التغيير؟ إن العودة إلى زيارة الرئيس الفرنسي مفيدة للإجابة عن هذا السؤال لأنها في الواقع سمحت لـ«حزب الله» وحلفائه بالتمسك بمبادرة غربية صادرة عن دولة مثل فرنسا لها علاقاتها التاريخية والمميزة بلبنان بعامة وبمسيحييه بخاصة، تقول بتغيير النظام مستبعدةً في الوقت عينه التطرق إلى القرارات الدولية بشأن سيادة لبنان وسلاح «حزب الله» غير الشرعي ودوره في البلاد.
طبعاً ليست المبادرة الفرنسية وحدها وراء التوقيت، بل يضاف إليها مسار التجاذب الأميركي الإيراني المستحكم في حدته، والذي يصيب لبنان عبر «حزب الله» المستهدف أميركياً كونه الذراع الإيرانية الأقوى والأفعل في الإقليم وخارجه. هذا التجاذب المترجم حصاراً وعقوبات متصاعدة ومتعددة على الحزب وبعض من حلفائه اللبنانيين، هو ما يدفعه وهؤلاء لتحصين مواقعهم ودفاعاتهم بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة مثل التمسك بوزارة المالية على سبيل المثال لا الحصر.
الهدف الأول لهذا التمسك هو الإطباق على القرار في المجالات كافة، والثاني، وهو الأهم والأثبت، تحويل الحزب إلى مكوّن رئيس ثابت في السلطة الإجرائية كمقدمة تشي بما سوف تؤول إليه عملية إصلاح النظام السياسي والعقد السياسي الجديد بعد إقرارهما.
من هذه المحطة، وسواء تشكلت حكومة بعد اعتذار الرئيس المكلف، أم استمر الاستعصاء، تظهّرت أمور كثيرة وخطيرة يصعب تجاوزها. فالأيام الأخيرة ربطت الجماعة الدينية بالانتماء السياسي، والاختزال الأدهى هو إقصاء كل أبناء الطائفة من حقهم في السياسة إذا لم يكونوا موالين للحزب الأقوى والزعيم الأوحد، ولا يصار إلى انتخاب أو تعيين إلا مَن يدين بالولاء الكامل، وهي حال مطالب «حزب الله» وحركة «أمل» بحقهم في اختيار الوزراء الشيعة في الحكومة.
وفي السياق نفسه، من المؤسف والخطير أن تكون الأطراف المناهضة للثنائي الشيعي قد انغمست من حيث لا تدري على الأرجح في لعبة الحزب. فعِوض أن يعلو صوت هؤلاء لتأكيد أن مطالب هذا الثنائي ليست بالضرورة مطالب غالبية الطائفة الشيعية وتطلعاتها، وقعت في المحظور ووجهت الردود إلى عموم الطائفة معترفة بحصرية تمثيل «حزب الله» وحركة «أمل» للشيعة كافة. وأكثر هذه الردود إيلاماً هو تساؤل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي: «بأي صفة تطالب طائفة بوزارة معينة كأنها ملك لها، وتعطّل تأليف الحكومة، حتى الحصول على مبتغاها؟».
والمشكلة الكبرى أنها باعترافها بحصرية الثنائي في التمثيل الشيعي، جيّرت هذا التمثيل لجهة مرتبطة عقائدياً وعضوياً بدولة أجنبية هي إيران، وإذا صح أن الطائفة الشيعية تعاني غبناً ما، فإن هذا الغبن أضحى مضاعفاً، لأن كل المكتسبات التي سيحصل عليها «حزب الله» و«أمل» ستذهب لصالح مشروع إيران في المنطقة لا لصالح شيعة لبنان. فكل التنازلات لإغراء الحزب واحتوائه، وآخرها مبادرة الرئيس الحريري، صبَّت في غير هدفها وأفضت إلى عكس غرضها وعززت التعالي والاستقواء في نفوس حَمَلة السلاح. وما اعتذار الرئيس المكلف مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة إلا دلالة على هذا الاستقواء ورأس جبل الجليد لما ينتظر البلاد.
لكل ذلك، جاءت تطورات الإقليم الأخيرة لتعزل لبنان أكثر، إذ انتقل موقع الثقل السياسي والمالي من الشرق الأوسط إلى الخليج العربي، في وقت يغيب لبنان عن السياسة بعد أن جُيرت بالكامل لصالح محور إيران، وهو ما عبّر عنه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز عندما قال في كلمته الأممية إنّ انفجار مرفأ بيروت جاء «نتيجة هيمنة (حزب الله) على صنع القرار في لبنان بقوة السلاح»، داعياً لنزع سلاح «حزب الله» لـ«تأمين الأمن والرخاء والاستقرار». وهذا الكلام الواضح والمباشر من العاهل السعودي يحمل الكثير من المعاني والدلالات للبنانيين علّهم يعتبرون.
ويغيب لبنان أيضاً عن المال مع انسداد نظامه المصرفي، ما دفع اللبنانيين مقيمين ومهاجرين إلى البحث عن مصارف آمنة، ودفع باقتصادات تعوّل على موارد الطاقة إلى الإيداع والاستثمار في غير مكان، ما لا يساعد دول المشرق وعلى رأسها لبنان على الخروج من دوامة الصراعات، ويسرّع من موجات هجرة النخب والكفاءات كما إفقار الطاقات العلمية والثقافية، وهذا ما بدأنا نلمسه في لبنان.
المضحك المبكي هو أن أي حكومة قد تتشكل لن تحمل معها خلاص لبنان مع استمرار توجيه «حزب الله» سلاحه إلى رؤوس اللبنانيين مجازاً أو فعلاً، وتمسكه بأجندته الإيرانية وإمعانه في اغتيال دستور البلاد، والإغفال عن مصالحها. والخوف أن يسير لبنان وفق ما يشتهيه أو يفلت علينا غضب جمهوره الذي طالبهم نصر الله بالمحافظة عليه «لأننا قد نحتاج إلى هذا الغضب».

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها