خالد حمادة

الأثنين ٢٩ أيار ٢٠٢٣ - 19:38

المصدر: المجلة

المهم ما بعد باخموت… وليس من يسيطر عليها

في ديسمبر/كانون الأول 2022، وخلال كلمته أمام الكونغرس الأميركي، قارن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي معركة باخموت بمعركة ساراتوغا (The Battle of Saratoga)، التي حقق فيها الثوار الأميركيون نصرا حاسماً ضد البريطانيين في أكتوبر/تشرين الأول 1777. وقال إن “القتال في باخموت سيغير مسار حربنا من أجل الاستقلال وحريتنا”. بعد خمسة أشهر، خرجت القوات الأوكرانية من باخموت، وأعلنت وزارة الدفاع الروسية السيطرة على المدينة في منطقة دونيتسك الشرقية بعد عشرة أشهر من القتال، في أول انتصار لها منذ يناير/كانون الثاني عندما استولت على مدينة “سوليدار” المجاورة.

مثّلت المدينة بالنسبة لروسيا بوابة محتملة لتحقيق السيطرة على المنطقة الصناعية الشرقية من دونباس، بينما برّر زيلينسكي إصراره المستمر على القتال لشهور في باخموت- رغم تدمير المدينة بقصف مدفعي كثيف وضربات جوية- بالقول إن القتال هناك من شأنه أن يستنزف القوات الروسية، محذراً من أن الانسحاب سيفتح الباب أمام جيش بوتين للتقدم أكثر في مقاطعة دونيتسك، وهي واحدة من أربع مقاطعات ادعى الكرملين ضمّها في سبتمبر/أيلول 2022. وبهذا أضحى الموقف الدفاعي بالنسبة لأوكرانيا وسيلة لإرهاق القوات الروسية وكسب الوقت لهجومها المضاد المتوقع على نطاق واسع.

وأشاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأول انتصار كبير له منذ الأيام الأولى لغزو أوكرانيا رغم إصرار كييف على أن المعركة “لم تنته بعد”، وقال إن مجموعة “فاغنر” شبه العسكرية استولت على المدينة بمساعدة القوات المسلحة الروسية بعد معركة دامية استمرت شهوراً وأودت بحياة أكثر من 100 ألف شخص ودمرت المدينة. ومع تحقيق روسيا أول انتصار لها، تتجه الأنظار إلى ردة الفعل الأوكرانية للتعافي من نكساتها في سوليدار وباخموت، بينما ستحاول روسيا الاستفادة من زخم السيطرة على باخموت. فكلا الطرفين مصمم على مواصلة الحرب ولا يبدو أن هناك أملاً ماثلاً في الأفق بإطلاق أية مبادرة نحو السلام أو المحادثات.

تكثفت الهجمات على الداخل الروسي منذ الإعلان عن سقوط باخموت في 20 مايو/أيار الجاري بالتزامن مع إعلان أكثر من مسؤول أوكراني أن الهجوم المضاد على روسيا قد بدأ. وتوزعت الهجمات على شريط حدودي في الغرب الروسي يمتد من بيلغورود على الحدود مع أوكرانيا، مروراً بمنطقة بيسكوف القريبة من حدود أستونيا، وصولاً إلى منطقة نيفلسكي شمال غربي روسيا على حدود أستونيا وفنلندا.

الهجمات على الداخل الروسي: الأبعاد والأهداف

واتّخذت العمليات المنفذة سواء لجهة كثافتها أو لجهة توزعها على منطقة جغرافية حدودية شاسعة وعلى العمق الروسي القريب من العاصمة موسكو، أشكالاً متعددة بما يجعل تصنيفها في خانة عمليات الإرباك ذات الطابع الميداني أو المخابراتي، التي تهدف إلى تشتيت الجهد الروسي وإلزامه نشر الوحدات العسكرية للرد على أنواع مختلفة من التهديدات، وبما يجعله عاجزاً عن مواجهة عملية عسكرية حقيقية يتم التحضير لها في مكان آخر.

وفي تفصيل العمليات، صرح حاكم بيلغورود بأن “مجموعة تخريب واستطلاع تابعة للجيش الأوكراني دخلت منطقة غريغورون في 22 مايو/أيار الجاري”، في حين نفت أوكرانيا علاقتها بالهجوم. وقال المتحدث باسم المخابرات الأوكرانية أندريه يوسوف، إن فيلقين روسيين معارضين للكرملين يعرفان باسمي “فيلق حرية روسيا”، و”فيلق المتطوعين الروس”، ينفذان عملية داخل بيلغورود لإنشاء ما سماه منطقة أمنية لحماية المدنيين الأوكرانيين. وأضاف أنّ الاضطرابات ستزيد، ليس فقط في منطقة بيلغورود، بل في الأراضي الروسية كافة.

أما في منطقة بيسكوف القريبة من حدود أستونيا، فقد نفذت طائرتان مسيّرتان هجوماً على محطة ترانسنفت لضخ النفط، كما ألحق انفجار لم تتوفر أية تفاصيل حوله أضرارا بالمبنى الإداري لخط الأنابيب قرب ليتفينوفو في منطقة نيفلسكي شرقي الحدود مع أستونيا وفنلندا. هذا بالإضافة إلى استهداف محطة نفطية أخرى في منطقة تفير شمال غربي موسكو بمسيّرة تم إسقاطها. وقد نقلت وكالة الإعلام الروسية عن وزارة الدفاع أن قواتها اعترضت صاروخي “كروز” بعيدي المدى من طراز “ستورم شادو” ((Storm Shadow البريطانية الصنع، كما اعترضت 19 صاروخا من نوع “هيمارس” (Himars) و”هارم” (Harm) الأميركية الصنع ذات المدى الأقصر، وأسقطت 19 طائرة مسيّرة بين 26 و27 مايو/أيار الحالي. فهل يمكن اعتبار الهجمات على مناطق حدودية من روسيا مؤشرات على التحضير للهجوم المضاد، وهل هناك فرص جدية لتحقيق تغيير ميداني حقيقي؟

يبدو أن روسيا ، التي فشل توغلها الأولي في أوكرانيا في تحقيق أهدافه، تتعلم من أخطائها في ساحة المعركة. ويشير تقرير صدر مؤخراً عن المعهد الملكي للخدمات المتّحدة
(London-based Royal United Services Institute) ومقره لندن، إلى تحسن التكتيكات الروسية في ميدان المعركة والتنسيق والإمدادات والحرب الإلكترونية والدفاع الجوي. ويضيف التقرير أنّ روسيا تكبدت في باخموت خسائر فادحة، لكن القتال خاضته مجموعة “فاغنر”، وهي شركة شبه عسكرية خاصة ما سمح لروسيا بالحفاظ على جاهزية القوات النظامية، بما في ذلك 300 ألف جندي تمّ حشدهم حديثاً، وأتاح الوقت لبناء التحصينات على طول أكثر من ألف كيلومتر من الخطوط الأمامية والتفرغ للتدريب.

يضيف الموقف الغربي المزيد من الضبابية حيال المسار المستقبلي للمواجهة المفتوحة مع روسيا، بما يؤكد أن استمرار الحرب هو الخيار المتاح، هذا ما يمكن قراءته من ردود الفعل الأميركية والأوروبية على طلبات كييف المتزايدة للتزوّد بالأسلحة.

كيف يمكن قراءة الموقف الغربي حيال ما يجري؟

ففي حين صدرت مواقف عديدة عن كلّ من فرنسا وألمانيا وبريطانيا تشير إلى عدم إمكانية الاستمرار في الدعم اللامحدود بالأسلحة والذخائر لكييف، وأن الخريف المقبل هو المدى الزمني المسموح للانتقال نحو تسوية سياسية للصراع المسلح، أجمع قادة مجموعة الدول السبع الكبرى خلال القمّة التي عقدت في هيروشيما على مدى ثلاثة أيام واختتمت أعمالها في 21 مايو/ أيار2023، واستضافت الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي، أجمعوا على “دعمهم الثابت لأوكرانيا ما دام ذلك ضرورياً” والموافقة على تدريب الطيارين الأوكرانيين على مقاتلات “إف-16”.

وبناء على ذلك لم تتردد كييف بالطلب رسمياً من ألمانيا تزويدها بصواريخ كروز من طراز “تاوروس” (Taurus-KEPD 350) التي يصل مداها إلى 500 كيلومتر، مع تسجيل زيادة ملحوظة في الإمدادات العسكرية الألمانية إلى كييف خلال الأشهر الأخيرة.

وفي المقابل، جدّد الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية المنتهية ولايته- في ختام أعمال اجتماع افتراضي لمجموعة الاتصال الدفاعية الأوكرانية- تأكيدات وزير القوات الجوية الجنرال فرانك كيندال، حول الدور المحدود الذي يمكن أن تلعبه طائرات “إف-16″، أن “تسليم تلك الطائرات، لن يكون سلاحاً سحرياً يقلب المعادلات في ساحات المعارك بين القوات الأوكرانية والروسية”، لكنه أضاف أن روسيا “لن تكسب الحرب، كما أنه من غير المرجح أن يتم دحر كل القوات الروسية في أي وقت قريب”.

وقال ميلي في مؤتمر صحافي مع وزير الدفاع لويد أوستن في البنتاغون، الخميس المنصرم
(25 مايو/أيار): “إذا أُرسلت الطائرات عاجلاً، سيكون التمويل على حساب القدرات الأخرى التي وضعت في أوكرانيا… والولايات المتّحدة طلبت منذ فترة طويلة من أوكرانيا عدم استخدام معدات عسكرية قدّمتها لها واشنطن لشن هجمات داخل الأراضي الروسية، وأن مكتبه يدقق في صور تظهر مركبات يُزعم أنها استخدمت في هجوم على منطقة بيلغورود الحدودية الروسية. وأضاف أوستن أن الولايات المتّحدة “ليست في حالة حرب مع روسيا”، مشدداً: “هذه معركة أوكرانيا”.

وفي الخلاصة، ما ينتظره العالم على المدى المتوسط أو البعيد، هو ما سيحققه الهجوم المضاد القادم من أوكرانيا، وهو ما يجعل السؤال الحالي حول من يسيطر على باخموت لا معنى له إلى حدّ كبير. فهل ستكتفي أوكرانيا باستخدام الطائرات دون طيار والنيران المتوسطة المدى أو العملاء في الداخل لإحداث اضطرابات داخل روسيا أم سيتضح أن ذلك مؤشر على هجوم مضاد مفترض؟

 

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها