منى فياض

الأثنين ١٢ آب ٢٠١٩ - 07:57

المصدر: الحرة

الهيجان الثأري وشيطنة الفن

لم يميز لبنان عن محيطه، منذ نشأته، سوى مساحة الحريات التي نجح في الحفاظ عليها. لكن ذلك لا يعني أن الاجهزة الأمنية، ومن خلفها المرجعيات الدينية، لم تحاول دوما ممارسة دور رقابي تعسفي على غرار ما هو سائد في المنطقة. فمنعت أعمالا فكرية وفنية وثقافية مختلفة. مع ذلك لم يعرف لبنان من قبل ما يشبه الحالة المتصاعدة من هيجان الرقابة الشعبوية المترافقة مع العنف ضد المنتج الفني كالتي نعاينها مؤخرا.

بات أمرا اعتياديا سماع الخطابات العنصرية ورفض الآخر، فيما يشبه الخطاب الثأري والغرائزي. وصرنا شهود عيان على مبارزة حامية بين مختلف الطوائف على ممارسة الرقابة والقمع الأصوليين.

لكنهم في خضم مبارزاتهم التعيسة يتناسى اللبنانيون المتعصبون حمام الفساد الذي يغرقهم، والدولة التي تتلاشى والبيئة المسمومة فيفرغون غضبهم ويأسهم ووجع هوياتهم المشلّعة على أغاني فرقة موسيقية، ربما تكون الأكثر تعبيرا عن تردي حالتهم التعسة، لكن على طريقتها.

غدا تنتهي بالطبع زوبعة فرقة مشروع ليلى، وهي أكثر شهرة على الأرجح؛ على غرار ما آلت إليه تجارب منع الأغاني في تراث قمعنا المجيد؛ إذ من المضحك أن نعرف أن أغاني مثل “يمّا القمر عالباب” لفايزة أحمد و”من سحر عيونك ياه” التي لحنها محمد عبد الوهاب لصباح وأغنية “سيجارة وكاس” لعبد الوهاب و”خليتني أحبك ليه” لليلى مراد، جميعها كانت قد منعت من قبل الرقابة؛ أحيانا لترويجها للخمرة وفي أحيان أخرى لطريقة الغناء التي اعتبرت إباحية. ناهيك عن الأغاني “الهابطة” التي تسبب القمع بشهرتها بدل منعها.

وبانتظار حفلة شيطنة جديدة لنشاط ثقافي آخر، سيظل الفساد على حاله وتنمو العصبيات المتناحرة، وتزداد مساحة الاستقطابات الطائفية، و”يا لغيرة الدين”.. من يدافع عن دينه أكثر!

في هذا الوقت سوف تشتد وتتعمق الرقابة الذاتية في المجال الثقافي والفني، ويكسب الاستبداد نقطة إضافية في سجله اللبناني الأسود.

ذلك أنه لا يجوز اعتبار الاستبداد ينحصر في القمع الذي تمارسه الأنظمة على المستوى السياسي والأمني بعيدا عن الدوائر الأخرى التي تطال حياتنا اليومية بجوانبها الشخصية والاجتماعية والثقافية والفنية؛ فهذه لا يجوز أن نضعها في خانة احترام العادات والتقاليد والخصوصيات الثقافية. مثل هذا الفهم يظل قاصرا عن فهم آليات استعباد البشر والهيمنة عليهم.

نجح جورج أورويل في روايته “1984” في أن يرسم صورة قاتمة للحياة اليومية في ظل نظام استبداد في حالته القصوى، استقى معالمه من التجربة النازية، وخصوصا من النظام السوفياتي وحزبه الواحد، وعبادة الفرد القائد، واختلاط السلطات وعسكرة القيادات والتظاهرات “العفوية” المنظمة وطوابير البشر للحصول على المواد الغذائية، إضافة إلى الشعارات البراقة واليافطات العملاقة.. لكن الأدهى من كل ذلك انعكاس الظروف السياسية العامة وتحكّمها في حياة البشر اليومية، في طريقة نومهم، وطعامهم، وشرابهم، ووضعهم النفسي، وعلاقاتهم العاطفية، التي تستحيل جحيما. فحتى الحب بين شخصين خاضع للرقابة والتحكم من “الأخ الأكبر” وأجهزته.

يتغلغل الاستبداد إذن في حياتنا اليومية ونعيشه على المستوى الفردي والحياتي. لا شك أن غياب القسر عن حياتنا هو شرط حريتنا، لكن الحرية ليست هذا فقط، بل هي القدرة على التحكم أيضا بما نريده، وما لا نريده، والقدرة على رسم مستقبلنا والمساهمة بتقرير قدرنا بطريقة ما. وفي لبنان يضيق أفقنا ومجال حرياتنا الفردية بشكل مطرد وينحصر في أماكن ومناطق معينة؛ مساحات الحرية تنحو نحو الانكماش.

فالحرية في الحياة اليومية تعبر عن نفسها كنظام حياة، كسلوك وممارسة لبرنامج يومي يقرره الفرد بالطريقة التي يريد. كأن يقرر الذهاب إلى المقهى أو تناول الغداء في أي مكان يختاره ويحتسي فيه كوب شاي أو كأس نبيذ، ويرتدي ما يريد ويشاهد فيلما أو حفلا لفرقة فنية كمشروع ليلى أو غيرها، ويشاهد المحطات التلفزيونية التي يختار دون رقابة ومنع، ويشتري الكتب والمجلات والموسيقى والأفلام التي يريدها، دون رقيب يقرر له ما هو الإباحي وما هو الأخلاقي.

أي أن يعيش حياته دون أن يقرر عنه أحد أو أن يصنفه أو يطعن في وطنيته أو يجعل منه كافرا. سبق للوزير السابق طارق متري أن سمح بمجلة “جسد” عندما منعت لأنه يرفض المس بحرية الإعلام أو النشر طالما أن المجلة المذكورة مغلفة، ولا يشتريها إلا من يريد من البالغين. فلماذا يريد من يعترض عليها التعدي على حرية الآخرين ومنعهم من اقتنائها؟

المنطق ذاته ينطبق على فرقة “مشروع ليلى”، التي ما كانت لتثير اهتمامي لولا المنع والقمع اللذين تعرضت لهما؛ فهي تشارك في حفل خاص مشاهدته تتم مقابل بدل مادي يبذله الراغب بذلك، فلماذا يجب أن تتحكم أقلية بأذواق الآخرين لتقرر المحتوى المناسب لهم وما يجب أن يشاهدوه؟

كان لدى البعض وهم هو أن القمع والرقابة هي من اختصاص رجال الدين المسلمين وجمهورهم، لكن يبدو أن العدوى انتقلت إلى الطرف المسيحي في لبنان الذي يتبع مثال المسيح ويتبع نظريا كنيسة روما وتعاليم البابا فرنسيس المتسامحة، فتبين أن المرجعيات الرقابية في لبنان تتبارى كي تقدم لنا صورة بائدة تنتمي إلى العصور الوسطى التي كانت تمنع الكتب وتحرقها وتعدم الكتاب والعلماء الذين باتوا من ركائز الحضارة العالمية.

رجاء أمنوا لنا كرامة العيش في بلد آمن ونظيف ومحتشم قبل أن تلعبوا دور الآلهة وكفوا عن حمل لواء الأديان التي لا تساهمون سوى بتشويهها. الأديان ليست بحاجة لمساعدتكم القاصرة لحمايتها.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها