سام منسّى

الأثنين ٢٣ أيلول ٢٠١٩ - 13:37

المصدر: الشرق الأوسط

بين الفجاجة الإيرانية والخجل الغربي

في مؤتمره الصحافي الذي عقده نهاية الأسبوع الماضي، أعلن وزير الدفاع الأميركي أن رد بلاده على القصف الذي تعرضت له منشآت «أرامكو» في السعودية، سيكون في تعزيز الدفاعات السعودية… بدلاً من القضاء على مصدر التهديد الإيراني. وفي هذا تأكيد أننا لم نخرج تماماً من خانة «مكانك راوح» التي ختمنا بها مقالتنا الأسبوع الماضي.
فعلى الرغم من أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية لم تحسم إلى أين تتجه الدولة العبرية سلماً أم حرباً، ولو أنها على الأرجح أبعدت بنيامين نتنياهو عن رئاسة الحكومة، يبقى القرار هناك رهن الصراع بين يمين ديني اللون ويمين عسكري علماني الخطاب. ويبدو جلياً أيضاً أن إسرائيل سوف تدخل مرحلة غير قصيرة من الترقب والانشغال في ترتيب البيت الداخلي، قد تنتهي بحكومة اتحاد وطني، بما يعنيه من غياب للتوجهات الحادة والحاسمة. كما من المتوقع أن تخبو «صفقة القرن»، وستدفن بعد الاعتراف بأنها أصلاً ولدت جهيضة.
إن صح هذا التصور، فمن المرجح ألا يشهد دور العامل الإسرائيلي في الإقليم تغييراً أساسياً، لا سيما بالنسبة للأزمة بين واشنطن وطهران، كما بالنسبة للوجود الإيراني في الدول المحيطة بإسرائيل. وقد يكون السبب الرئيس وراء ذلك هو توجه السياسة الأميركية الواضح نحو عدم التصعيد العسكري من أي جهة أتى.
والمراوحة أيضاً بادية للعيان في أحداث إدلب السورية؛ حيث لا وقف لإطلاق النار واستمرار لحملة قوات النظام يواكبها عنف القصف الروسي الذي يأخذ مداه، وطبعاً بمشاركة «حزب الله» والميليشيات الإيرانية. ومع أن محنة إدلب ومأساة سكانها يستحقان لفتة أميركية وأوروبية مفقودة، تبقى الأمور متروكة على غاربها، ونهج إردوغان تائه بين نرجسيته ووعوده السلطانية المواربة، ولعبة التذاكي التي يمعن فيها مع إيران وروسيا من على منصة آستانة، والنتيجة معروفة سلفاً من تدمير وتهجير وقتل واعتقالات.
والمراوحة مرجحة أيضاً في تعاطي الرئيس دونالد ترمب مع الممارسات الإيرانية المستفزة؛ بحيث بات يصعب أن نتوقع ردوداً أميركية غير العقوبات.
فمن إسقاط طائرة «الدرون» الأميركية، إلى قصف منشآت لـ«أرامكو» في السعودية، مروراً بما حصل بينهما من قصف وتفجير واحتجاز للسفن، كل هذه الحوادث والاعتداءات لم تغيّر جوهرياً وفي العمق الاستراتيجي موقف الرئيس ترمب.
في الحقيقة، ليس من الصعب فهم منطق الرئيس ترمب، إنما يصعب تجاهله قدرة النظام الإيراني على الصمود وسط العقوبات التي يفرضها. ولعل أبرز دعائم هذه القدرة هو اتكاء إيران، وبثقة، على ما تقدمه لها روسيا والصين وغيرها من الدول، مباشرة أو مداورة، من مقومات للصمود في وجه الضغوط الأميركية. وقد يكون السبب وراء مواقف هذه الدول ليس محبة إيران، قدر ما هو نكاية وكره لأميركا، ورغبة جامحة في إبعادها عن المنطقة، وحتى إخراجها منها.
هذا كله يفسر جرأة الهجمات الإيرانية على بقيق وخريص، التي كشفت ثابتة في السياسة الأميركية، وهي عدم الرغبة في الحرب، وثابتة في السياسة الإيرانية، وهي الإمعان في جموحها التوسعي.
أولاً، لا بدّ من الاعتراف بأن النظام الإيراني سجل قبل الاعتداء على «أرامكو» نقاطاً مهمة لصالح خططه التوسعية، ومسعاه في تفكيك البنى الاجتماعية عبر تأجيج لا سابق له للنعرات العرقية والمذهبية. وقد تمكن من التسلل بنجاح إلى التكتلات الغربية، واستنجد ببعضها وأغراها باستثمارات ومنافع من جهة، وهددها بأذية مواطنيها من جهة ثانية، حتى أنه اعتقل منهم اعتباطياً ودون حق في الدفاع، وافترى على سمعة باحثين وجامعيين. وحرك شخصيات إيرانية في الغرب لها تواصل مع دوائر القرار، ليعزز ما يزعمه من دبلوماسية القوة الناعمة. والأكثر خطورة أنه فكك نيات إدارة ترمب، وتصرف على أساس نهجها المتردد ونزعتها الانكفائية عسكرياً ودبلوماسياً، فتمادى في التجرؤ على حلفائها.
إن الاعتداء الإيراني الشنيع ضد منشآت «أرامكو» في السعودية ليس نزقاً من الملالي؛ بل هو خطوة محسوبة علَّها تعزز أوراقهم التفاوضية التي يعملون بكد وجهد لطرحها في تداولات جارية في الكواليس، ومناقشات متعددة الأطراف، تتناولها وسائل الإعلام الدولية.
مع كل ما سبق، هل يحق لنا أن نسأل إذا ما كان يتوقع لهذا الاستقواء الإيراني أن يدخل مرحلة الأفول؟ الإجابة بنعم مستحيلة، إذا لم تتخذ بعض التدابير، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
– التشدد في مقاربة الضغوط القصوى، وتشديد الخناق الاقتصادي، وسد الثغرات التي توفرها دول تعادي أو تخاصم الولايات المتحدة.
– تسديد ضربات إلكترونية تعطل منشآت إيرانية حساسة، وتخفف من التبجحات الإيرانية.
– تعزيز تعبئة الرأي العام الدولي لكبح جموح التهور الإيراني وميوله الانتحارية، والإسراع في تشكيل تحالف دولي ذي وزن وعزم.
– تكثيف الضغوط على أنواعها، لإخماد الاستفزازات الحوثية التي تنصاع لإيران دون أي اعتبار لمصالح اليمن وأمن شعبه.
– إعلان توافق أميركي خليجي على خط أحمر لا يمكن لإيران اختراقه بعد الآن دون محاسبة عسكرية ردعية، تجعلها تدفع ثمناً باهظاً لأفعالها.
قد يكون قرار الرئيس ترمب بوقف المغامرات العسكرية التي سبق أن تورطت بلاده فيها محقاً، إلا أن ذلك لا يعني، ويجب ألا يعني، أن دولة إيران أو غيرها، تستطيع أن تعرض الأمن الدولي للخطر. فالولايات المتحدة ملزمة أخلاقياً ومصلحياً بأن ترد على كل تهديد لاستقرار مجتمعات تربطها معها علاقات وطيدة اقتصادياً وأمنياً. وحول هذا ليس هناك من يطالب أميركا بشن حرب شاملة، ولا حتى العمل جدياً على تغيير النظام الخميني وإسقاطه، ولكن المطلوب هو التعامل معه بحزم، وإلا ستبقى أعناق الجميع رهن المثل القائل: «يا فرعون مين فرعنك؟ فأجاب: لا أجد من يردعني».
إن النظام الإقليمي يشكو من أعطاب ترهقه وتجهض كل مسعى لإصلاحه أو إعادة التوازن إليه، على قواعد التعاون والتضامن واعتماد الحوار بين دوله، لمواجهة الأخطار المحدقة بهم. فالإقليم ما زال يتطلع إلى مواقف دولية، وبالتحديد أميركية، منشودة لتخرجه من تناسل أزماته وتفجراته المتلاحقة، جراء إصرار النظام الإيراني على التشبث المدمر بتصدير ثورته المذهبية، ومد هيمنته العرقية على جواره.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها