منى فياض

الثلاثاء ٣١ تموز ٢٠١٨ - 08:09

المصدر: الحرة

بين مونتريال مدينة الفرح وبيروت المعتقل ذي الرائحة الكريهة

نجلس إلى طاولة في “ساحة الفنون” في مونتريال تطل على إحدى الفسح التي تقدم فيها عروض منوعة تتوالى ما بين موسيقى أو عروض مسرحية صامتة إلى أداء حركات رقص تعبيرية على وقع بعض الأغنيات الفرنسية وبعض الألحان الأخرى مثل زوربا أو ألحان غجرية وشخصيات سيرك تقوم بملاعبة الجمهور بمظلاتها الماطرة. جذبت هذه العروض جمهورا من البالغين والأطفال، رجالا ونساء من قوميات وثقافات شديدة الغنى والتنوع… في هذه الأجواء، تلفتت إليّ ابنتي فجأة بنوع من التساؤل العاتب المختلط بالتعجب: ألا تفكرين بالكتابة عن مونتريال، مدينة الفرح والسعادة؟ هل عليك دائما الالتزام بالكتابة السياسية؟

في الواقع إن أكثر أنواع الكتابة التي أحبها، هي الكتابة عن المدن ولطالما فعلت ذلك، قبل أن أقرأ ما حكاه ماركو بولو لقبلاي خان (بطل “مدن خفية” لإيتالو كالفينو).

حملتني حكاياته إلى مدن سحرية ذات قباب ملونة، أبراج بلورية وشوارع تعبرها امرأة عارية تركض لتختفي وتضيع. إلى مدن، بهندستها ومعمارها كما في ألف ليلة وليلة، بحجارتها ونقوشها؛ وساحات وسطوح وشرفات بناسها وأزهارها، بظلالها وأضوائها. صارت الكتابة عن المدن تشبه طقس عبادة؛ وكلما مشيت في مدن جديدة تسجل ذاكرتي مشاهد وصور بطريقة السرد القصصي الذي يقبع بانتظار مناسبة كي يظهر.

سبق أن كتبت عن مونتريال، التي أدهشني تنوعها والتعدد والتسامح الذي يغمرها كفيء منعش أو كدفء شمس خريفهم المعروف بـ”الصيف الهندي” والمغنى في قصائد؛ والمقصود هنا الاستمتاع بسحر ألوان الأشجار في الخريف، بتدرجاتها من الأخضر إلى الأصفر والذهبي والنحاسي والأحمر..

تتحمس ابنتي، التي تتابع مهرجانات مونتريال منذ عدة سنوات، لتخبرني أن السلطات المحلية تعمل مؤخرا على جلب الفرح والسعادة إلى قلوب السكان فتقدم جميع التسهيلات والتدابير اللوجستية الممكنة لهذه الغاية. ويبدو أن سياسة رئيس البلدية الحالي هي جعل مونتريال مدينة سياحية ترحب بالزوار وتسهل حياتهم وتجعلها ممتعة وغير مكلفة؛ لذا يلاحظ في المدة الأخيرة انتشار المقاعد في الشوارع، سواء السياحية الشهيرة منها كالأولد بورت، أو في الضواحي حيث تخصص أمكنة قريبة من مراكز التسوق والمقاهي والكنائس والمحال المنوعة لوضع طاولات ومقاعد ـ كالمقاهي ـ كي يجلس إليها السكان لتناول ما يجلبونه. وكثيرا ما تصادف عازف (أو عازفة) يجلس إلى بيانو في الشارع قرب مركز رياضي أو ترفيهي أو كنيسة يلعب مقطوعات منوعة يستمع إليها من يرغب.

تستمر المهرجانات حوالي شهرين خلال كل عام، وتمتد من 10 حزيران/يونيو إلى آخر شهر تموز/يوليو فتتوزع على شتى أنواع الفنون، وفي مناطق مختلفة ما بين ساحة الفنون وشارعي سان دنيس وسان لوران. وأشهر هذه المهرجانات، مهرجان الجاز الذي شارك فيه هذا العام في دورته الـ 39 مئات آلاف الأشخاص وصنفته موسوعة “غينيس” كأكبر مهرجان للجاز في العالم، ناهيك عن مهرجان الضحك مع شخصية فيكتور والسيرك والليالي الأفريقية وكثير غيرها.

عند التجول بين هذه الجموع التي تملأ الشوارع المخصصة للمشاة فقط دون المركبات في فترة المهرجانات، يجرفك الحشد ويحملك معه مثل موجة تغرق داخلها فتجد نفسك كأنك دخلت في قوقعة تلفك بالأمن والدفء والطمأنينة.

أما الجمهور المسالم فيغمرك بلطفه وقد يتبرع أحدهم تلقائيا لأخذ صورة لك أو لمساعدتك؛ ولن تشهد أي عراك أو عنف بل سترى وجوها ضاحكة أو متأملة أو متحلقة حول الطاولات الموزعة على شكل بارات أو مقاه صغيرة متفرقة تجلس إليها بحرية ويمكنك أن تطلب مشروبا أو طعاما أو تحضر ما تريد تناوله معك. حتى الأطفال سيجدون أماكن مخصصة لهم للعب تحت رذاذ البخار البارد أو العزف على أصابع بيانو ضخم يفترش الأرض.

وفي هذه الأثناء تستمتع بمشهد مسرحي أو فرقة موسيقية أو عازف منفرد أو أي من العروض الآتية من مختلف أنحاء الكرة. هنا، ستعتاد حواسك على سماع ومشاهدة وقبول مختلف اللغات واللهجات والأعراق وألوان البشرة والأزياء كما الأعمار والأجناس.

يشعرك كل ذلك بدفء العلاقات بين البشر وتستعيد الثقة بأن الجنس البشري يحافظ على إنسانيته عندما يتمتع بحقوقه في المجتمعات التي يصفها بعض من عندنا بالمادية والمتحللة وغير الأخلاقية!

وفي حين مارست الرقابة الوطنية في لبنان صلاحياتها في قمع الفن بعدم السماح عرض فيلم بسبب قبلة بين شابين؛ كنا نتابع أحد العروض التي اختلط فيها الأداء المسرحي بالموسيقى وبالنكات الضاحكة مع الأكروباسي الذي حكى لنا ما جرى لإيفا وتريستان اللذين أحبا بعضهما، وككل العشاق تقاربا وتباعدا فاستقرا على توازن متحرك. لكن إيفا شعرت بقلق ما، فغابت وعادت بعد أن تحولت الى إيف واستعادت قصة الحب مع تريستان وأعادا التجربة وتوصلا مجددا إلى التوازن المتغير ككل المحبين. في مقابل منع فيلم بسبب قبلة في بيروت، يصفق جمهور مونتريال لحكاية لإيفا/ إيف وتريستان، وهو جمهور شديد التنوع ومن جميع القوميات والأجناس والألوان والثقافات.

سيخطئ من يعتقد أن الجمهور، كأفراد، يختلف كثيرا عن الجمهور في لبنان. فالأفراد يتشابهون كثيرا، بحاجاتهم ولفتاتهم وردات فعلهم وكلماتهم. ينشغلون بتناول الأطعمة والتحادث والجلوس مع بعضهم البعض وللأطفال نفس الحركات والأصوات والضحك والبكاء.. لكن الخلطة العامة تنتج شيئا مختلفا. سنجد حرية أكبر في اللبس وتكلفا أقل وقبولا تاما للآخر مهما كان مختلفا، وهناك كثير من العرب والمسلمين والمسلمات المحجبات الذين نجدهم حولنا يختلطون ويشاهدون ما يعرض كالآخرين.

هناك التمايزات طبعا، سواء الفردية أو الثقافية، لكن لا تظن أن من أمامك سيكون أكثر معرفة سياسيا أو علميا… مع ذلك ينتج اجتماعهم اختلافا نوعيا وسلوكا أكثر التزاما واحتراما للنظام والقانون وحرية الآخر والملكية العامة، لأنهم جزء من نظام عام ذي فعالية، يحسن الإدارة ويقوم على التعاون التام بين جميع مكوناته، حتى العرب. لكل مهمته التي يؤديها بمنتهى الدقة والالتزام مهما كانت صغيرة أو تافهة بنظر البعض.

تسأل نفسك لماذا هذا الاختلاف؟ أليست المشكلة إذن في النظام السياسي والتقاليد الديموقراطية واحترام الحريات وفي القدرة على التعاون التام المتزامن!

تتحول مونتريال إلى مدينة سياحية يغمرها الدفء الإنساني والرعاية وتتمتع بالحريات العامة والشخصية وتبحث عن توفير الفرح لمواطنيها وتحتضن زائريها وترعاهم، بينما تتحول بيروت إلى مدينة عالمثالثية فاشلة، محتلة من قبل مقاولي سلاح ومال، يغمرها الفساد كما النفايات، والعمل جار على تحويلها إلى نسخة عن “سورية الأسد”، محكومة من قبل “بساطير” الأجهزة الأمنية.

تمارس الرقابة على جرعات صغيرة، منها المعلن الذي يستثير الإعلام عندما يتعلق الأمر بصحافي معروف، ومنها ما تحدثت عنه منظمة العفو الدولية عن أن الأمن اللبناني يبتز ناشطين ويجبرهم على توقيع تعهدات بعد اعتقالهم وتهديدهم… الغريب أن الاعتقالات مستمرة ومن دون توضيح من وزارة الداخلية أو أي جهاز أمني.

بات ينطبق على اللبناني ما قاله محمود درويش: تحمل صليبك وتمشي إلى ميعاد انتحارك. كما صار يبحث عن “قلبه الذي وقع تلك الليلة وتكلس كالحصى”.

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها