أحمد بيضون

الثلاثاء ٢٣ أيار ٢٠٢٣ - 12:41

المصدر: المدن

بَيْنَ السعادةِ وراحةِ البال

قَبْلَ أعوامٍ، كان واحدٌ من أكبرِ المصارفِ اللبنانيّةِ يتّخذُ له شعاراً إعلانيّاً “راحةَ البال”! كان هذا المصرفُ يتنازعُ وآخرَ صفةَ “المصرفِ الأكبرِ” أو الرتبةَ الأولى بينَ المصارفِ اللبنانيّة: فتارةً تُمْنَحُ هذه الرتبةُ لهذا وتارةً لذاك. في كلّ حالٍ، كان يصعُبُ أن تنجو، إذا أنتَ جلستَ أمامَ شاشتكَ الصغيرةِ ساعةً من الزمنِ، من ذِكْرِ المصرفِ المُشارِ إليهِ يرنُّ في أذنيكَ مَثْنى وثُلاثَ مقترِناً بتلكَ العبارةِ تَنْشُرُ الخَدَرَ في جِسْمِكَ كلِّه: “راحةُ البال!”…

اليومَ يجوزُ الافتراضُ أنّ هذا المصرفَ، إذا صَحَّ أنّه لا يَزالُ الأكبرَ، فهو المصدَرُ الأهَمُّ لإقلاقِ راحةِ المودعينَ فِيهِ إلى حدِّ إبعادِ الكَرى عن جفونِهم وعن جفونِ من قد يلوذُ بهِمْ أو يعتمدُ عليهِم من ذوي القُرْبى واليَتامى والمساكينِ وأبناءِ السبيل…

وقد تبدو الصلةُ واهيةً، لأوّلِ وهلةٍ، بين تغيّرِ الحالِ هذا وتقهقُرِ لبنان واللبنانيّينَ إلى الدرجةِ ما قَبْلَ الدنيا على سلّمِ “السعادةِ” الدوليِّ، فلا يبقى دونَنا على السُلّمِ المذكورِ إِلَّا أفغانستان وشعبُها المنكوب. ولكنّ هذه الوهلةَ الأولى غَرّارةٌ إذ الصلةُ المُشارُ إليها وثيقةٌ للغاية. وذاكَ أنّ تداعي النظامِ المصرفيِّ اللبنانيِّ كشفَ هشاشتَهُ بما هو عمودٌ فِقْريٌّ لنظامِنا الاقتصاديِّ ولكنّه كشفَ أيضاً، بما استدعاهُ من تصدُّعاتٍ، هشاشةَ الحياةِ اللبنانيّةِ كلّها. لم يحصُل هذا الكشفُ لأوّلِ مرّةٍ فإنّ عهدَنا به قديم. ولكنّه حصَلَ مرّةً أخرى وجاءَ حصولُهُ فاجراً.

وقد كانَ لا بُدَّ لنا، وقد وجدنا أنفٌسَنا في هذا الحضيضِ، أن نشرئبَّ إلى أعلى سُلَّمِ السعادةِ ذي الدرجاتِ المائةِ والأربعِ والثلاثين، لنعلَمَ، في الأقَلِّ، مَن الأَوْلى بغيظِنا وحسَدِنا. فكانَ أن وقعنا على فنلندا، وهي بلادٌ يوشكُ أن لا يكونَ بينَنا وبينَها خيرٌ ولا شَرّ، فأخذنا عِلماً باستوائها على قمّةِ الهَرَمِ تنازعُها موقعَها هذا الدنمارك، ووقَفْنا من العِلْمِ عندَ هذا الحدّ، على وجه الإجمال، أو تجاوَزْناهُ قليلاً إلى “الوصيفةِ الثانيةِ” وهي أيسلندا. لم نَجِد في شهيّتنا متّسعاً للغوصِ في مزيدٍ من التفاصيلِ، أي – مثلاً – للتوقّفِ مليّاً عندَ تبوُّءِ إسرائيل المرتبةَ الرابعةَ، وهذا بعد إنزالِنا ما أنزلناهُ بها من هزائم! بهذه الصفاقةِ إذن، انتقَلَت “راحةُ البالِ”، على ما يظْهَرُ، من صَفّنا إلى صَفِّ العَدُو!

هذا ونعلمُ أنّ سُلّمَ السعادةِ ذاكَ، وقد ذاعَ صيتُهُ وأصبحَ ظهورُه الدوريُّ منتظراً، إنَّما وُضِعَ في مواجهةِ “الناتج الداخليّ القائم” و”الناتجِ الوطنيّ القائم” اللذين كانا (ولا يزالان) معتمَدَينِ، تقاسُ بحركتِهما صحّةُ الاقتصادِ في دولةٍ من الدُوَلِ وتٌقارَنُ الدُوَلُ، لهذه الجهةِ، بعْضُها ببعض. فكأنّ الارتدادَ إلى حديثِ السعادة أريدَ لَهُ أن يأتيَ مصداقاً لحكمةِ الشعوبِ وهي القائلةُ أنّ المالَ ليسَ كلَّ شَيْءٍ في حياةِ البشر! لم يهمِلْ مقياسُ السعادة الذي رعَتْهُ الأممُ المتّحدةُ وأمَدّتْهُ مؤسّسةُ “غالوب” المشهورةُ بالمعطياتِ المناسِبةِ، موقعَ المالِ أو الاقتصادِ، بطبيعةِ الحال. ولكنّ التقريرَ الأخيرَ تبيّنَ ركائزَ سِتّاً اعتمدها للسعادة. وهي الدخلُ والصحّةُ وتوفّرُ السندِ الاجتماعيّ والشعورُ بالحرّيّةِ في توجيهِ دفّةِ الحياةِ والكرَمُ (بمعنى الاستعدادِ لبذلِ المعونةِ) والبعدُ عن التعرّضِ للفساد.

وقد انتظمَ صدورُ هذا التقريرِ العالَميِّ منذ سنةِ ٢٠١٢. ولكنّ أصلَ فكرتِه يرقى إلى أوائلِ السبعيناتِ من القرن الماضي. إذ ذاكَ ارتأى ملكُ بوتان، المملكةِ الصغيرةِ المحشورةِ بينَ التيبت الصينيّة وبعضِ ولاياتِ الاتّحادِ الهنديِّ، وكان الملكُ لا يزالُ في السادسةَ عشرةَ من عمرهِ، أن ينشئَ أداةً يقيسُ بها حظّ شعبِهِ من السعادة. وهذه رغبةٌ استغرقت التهيئةُ لوضعها موضعَ التنفيذِ عقوداً فلم يتيَسّر تجسيدُها مرّةً أٌولى إِلَّا في سنةِ ١٩٩٨. على أنّ إجراءَ هذا القياسِ رُفِعَ لاحقاً إلى مَصافِّ الواجبِ الوطنيِّ الثابتِ إذ أدْرِجَ في دستورِ البلادِ المعتَمَدِ سنةَ ٢٠٠٨، وهو ما انفرَدَت به بوتان وبقيَ التزامُها به مستقلّاً عن المبادرةِ الدوليّةِ التي استلهَمَت خبرتَها. هذا ولا يظْهَرُ لبوتان أثرٌ بينَ الدُوَل المدْرجةِ على السُلّم الدُوَلي وعَددُها، على ما سبَقت الإشارةُ إليه، مائةٌ وأربَعٌ وثلاثون!

في كلّ حالٍ، تُفيدُ مراجعةُ العناوينِ الستّةِ التي جعلَها التقريرُ الدُوَليُّ لهذه السنةِ مفاصلَ له أنّهُ لم يَبْقَ للّبنانيّينَ من معظَمِها، في هذه الأعوامِ الأخيرةِ، نصيبٌ يُذْكَر. على أنّهُ لا يزالُ يسعُهُم (شأنُهُم في هذا شأنُ سواهُم) أن يجادلوا في وجاهةِ هذه العناوينِ وفي كفايَتِها أدلّةً لسعادةِ الشُعوبِ أو أن يَطْرَحوا، في الأقلِّ، مُشْكِلَ التَراتُبِ في ما بينَها، إذا هُم سَلّموا بكفايتِها الإجماليّة. هذا جدالٌ مفتوحٌ يُسْتَبْعَدُ أن يظهرَ إلى حَسْمِهِ سبيل.

عليهِ أرى أن نترُكَ السعادةَ لأهلِها ونقنَعَ بالنـظَرِ في ما كانَ ذلكَ المصرَفُ يزعُمُ إلى أمسٍ قريبٍ ضمانَهُ لنا، أي “راحةِ البال”. وهو ما أجدُ له، من جهتي، مقياساً واحداً مناسباً لا يدخُلُ في نطاقِ العَمَلِ المصرفيّ وإن تَكُنْ المَصارِفُ تتدخّلُ فيه: ألا وهو كلفةُ التغييرِ السياسيّ. فإذا كانت كلفةُ هذا التغييرِ، على اختِلافِ درجاتِهِ: من تعديلِ سياسةٍ ما إلى تغييرِ النظامِ السياسيِّ، تُتَرْجِمُ حقَّ الشعبِ في تقريرِ مصيرِهِ واختيارِ من يَسوسُ شؤونَهُ وتعيينِ الأهدافِ والوسائلِ الموافقةِ للخيرِ العامِّ، كانت راحةُ البال حاصلة. وذاكَ أنّ ما يَسوءُ أو يَبْلى يكونُ ممكناً تغييرُهُ بحُكْمِ الحقِّ أي من غيرِ حاجةٍ إلى تكَلّفِ الفادحِ من التضحيات: الفادحِ إلى حدٍّ قد يجْعَلُ الخسارةَ في طلبِ الانتقالِ أضخَمَ من الربْحِ المترتِّبِ على الوصولِ… وهذا إذا كانَ الوصولُ –أو بَقِيَ– في دائرةِ الممكِنات.

واضحٌ أنّ راحةَ البالِ هذه غيرُ حاصلةٍ لِلُّبنانيّين. وتفْرضُ الأمانةُ التاريخيّةُ الاعترافَ بأنّها كانت (ولكن بمعنىً آخرَ لها) بعيدةً عنْهُم، على الدوامِ تقريباً. وذاكَ أنّ السمةَ الأصدقَ وصفاً لنمطِ العيشِ اللبنانيِّ كانت، في معْظَمِ المراحلِ، أنّ اللبنانيّينَ يعرفونَ على ماذا أمسوا ولكن لا يعرفون على ماذا يصبِحون. وهو ما كانَ ميشال شيحا يطلقُ عليهِ متغزِّلاً اسمَ “العيش في خَطَر”… ذاكَ ما يتبدّى للنَظَرِ الإجماليّ.

وأمّا اليومُ الذي نحْنُ فيه فهو، في ما يتعَدّى لزومَهُ هذا المجرى العامَّ، يومٌ آخرُ: يومٌ مختلِفٌ جدّاً. والفارقُ بينَ هذا اليومِ وغيرِهِ هو الفارقُ بينَ النكبةِ بِما هي احتِمالٌ قريبٌ أو بعيدٌ والنكبةِ بِما هي وَهْدةٌ سقطَت فيها الحياةُ اللبنانيّةُ كُلُّها وهي لا تَني تَزدادُ عُمْقاً ولا يَتَبَيَّنُ منها مَخْرَج. فإنّ البلادَ توشكُ أن يُقْضى عليها حَرْثاً ونَسْلاً من غيرِ أن تبدو هذه الكلفةُ كافيةً لفرضِ ما يقتضيهِ انفكاكُ قبضةِ المحنةِ المطبقةِ على أعناقِ اللبنانيّينَ من تغييرٍ سياسيّ. بل إنّ مسيرةَ الهلاكِ هذه متروكةٌ تمضي نحو خواتيمِها، لا يلجمُها اللبنانيّونَ ولا غَيْرُهم. وربّما كانَ أفْجَعَ ما في المحنةِ اللبنانيّةِ (مُضافاً إلى “الاستقالةِ” شِبْهِ الشاملةِ من السَعْيِ في معالَجَتِها) اشتِدادُ نَزْفِ البلادِ لأوفَرِ قواها أهْلِيّةً للنهوضِ بها. معنى هذا كلِّهِ أنّ الدرجةَ التي ضَمنّاهاً مَقْعداً لنا في أسفَلِ سُلّمِ السعادة تبقى مضمونةً لنا أيضاً في أسفَلِ سُلّمِ راحةِ البال.

وقد ذَكَرْنا أنّ دولةً واحدةً كانت قد وُجِدَت أقلَّ سعادةً منّا هي أفغانستان. وأمّا سلّمُ راحةِ البال فأرى أن نتركَ عليه مقعداً واحداً أيضاً أدنى من المقعدِ اللبنانيّ: نترُكُه لسوريّة. وذاكَ أنّ السوريّينَ أرادوا التغييرَ السياسيَّ، موضحينَ أنّهم يقصدونَ إسقاطَ النظامِ الأسَديِّ. فكان أن تَكَبّدوا كلفةً أبرزُ عناصرِها هجرةُ رُبْعِهم، في أدنى تقديرٍ، وتوزّعُ الأرباعِ الباقيةِ، وأحدُها، في التقدير الأدنى أيضاً، مهجَّرٌ، بيْنَ مناطقَ بقيَت للحُكْمِ الأسديّ أو عادت إليهِ وأخرى موزّعةِ المرجعيّاتِ والتوجّهاتِ. تُتَوِّجُ هذا الخرابَ قوى احتلالٍ متنافسةٍ أو متنازعةٍ واضعةٍ أياديها على معْظَمِ البلادِ وأجواءٌ ومَرافقُ مستباحةٌ من جانبِ المحتلِّ القديمِ. وهذا فضلاً عن الدمارِ العميمِ والقتلى بمئاتِ الألوفِ وأرخبيلِ الاعتقالِ والتعذيبِ الشاسعِ وفضلاً عن تداعي مقوّماتِ العيشِ العاديِّ كافّةً… ذاكَ كلُّهُ تغييرٌ، لا رَيْبَ، وهو – بينَ ما هو – تغييرٌ سياسيٌّ. ولكنّهُ ليس التغييرَ الذي بذَلَ السوريّونَ ما بذَلوه طلَباً له. وإنّما هو عَكْسُه. وهو ما أراهُ، بالنظرِ إلى فداحتِهِ القُصْوى، بما هو كلفةٌ فُرِضَت وأفضى فَرْضُها إلى غيرِ النتيجةِ المُتَوخّاةِ أو إلى حَجْبِ هذهِ الأخيرةِ، يُجيزُ تعيينَ الموقعِ الأبعَدِ عن راحةِ البالِ على أنّه موقعُ السوريّينَ اليوم.

قُلْتُم “راحةُ البالِ” يا نُخْبةَ الحُثالات؟!

المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها